مشانق الحرية!

 

 

معاوية الرَّواحي

مِنْ أعجب المفارقات الساخرة: كيف يُمكن للأشياء أن تتناقض مع معناها الواسع؟! كيف يُمكن للضوء الخافت أن يكون كاشفاً، وأن يكون الضوء الساطع غامضا؟! عاشتْ "الإنترنت" في عُمان مراحل مُختلفة، اعتمدتْ في بدايتها على العامل الواقعي؛ مثل: الشبكات، وقوة الشركات، وملاءمة الخدمات للمجتمع في عُمان. في تصاعُد مهول حملتْ "الإنترنت" مع تطورها شعلة الحرية والاختلاف. وجدتْ أجيالٌ متتالية حريةً خاصةً تسمحُ للإنسان بالتعبير خارج الضغوط الاجتماعية، أو اشتراطات المؤسسات. وكما وَجَد الكاتبُ الشاب مجالا ليختبر عالم الكتابة وغوامضه وظواهره عبر المنتديات، ثم لاحقا مواقع التواصل الاجتماعي، وَجَد كذلك البائعُ الشاب نفسه عبر حساب يُروِّج لمنتجات يجلبها، وكذلك وجدتْ صاحبة الصالون مواقعَ مناسبة لتُعلن عن خدماتها، ووجدتْ فتيات كثيرات مصدرَ رزق عن طريق الحناء في المنزل، لم تكن "الإنترنت" فقط وسيطَ كتابة ونشر كما يحلو للمثقف عادة أن يصفها، كانت ظاهرة اجتماعية مُتكاملة، غيَّرتْ الكثيرَ من السلوكيات الاجتماعية العامة، وصنعتْ مساحة للاختلاف، وللتعارف والتواصل لاحقا في العصر الذي اشتعلتْ فيه وسائل التواصل الاجتماعي، بعدما كانت "الإنترنت" تُعرف بالإعلام البديل.

أصبح الجميعُ الآن مرتبطاً بهذه الشبكة التي فرضتْ نفسها عليه، إنْ لم يكن بحسابٍ خاص به، ففي بريد العمل الإلكتروني، وإن لم يكن هذا وذاك، ففي خدمة الواتساب التي تلزمه بذلك. أصبحت كلمة "بيانات" من الكلمات الشائعة أيضا، وعلى الجانب البصري شكَّل "اليوتيوب" وخدمات أخرى إلكترونية للمنتجات المرئية نقلات مُتواضعة حتى الآن، ولكنها تكبُر مع الوقت لكي تتحوَّل إلى بديل جيد للخدمة السابقة. نموذجٌ كلاسيكيٌّ عن تطوُّر العالم بالصناعة، وتغيرت أشكال السلوك الحياتي اليومي؛ لأنَّ هناك أشياء أصبحت أسهل بكثير من السابق.

نأتي الآن إلى سُؤال كبير: ماذا قدَّمت "الإنترنت" للحرية؟ نعم، لا يُمكن أن يُجادل أيُّ إنسان أنَّها قدَّمت للحرية خدمات جليلة، تأتي فردانية "الإنترنت" وقدرتها على إيجاد مساحة رقمية لأي إنسان كأقوى سماتها. وعلى صعيد الكتابة، لم يَعُد الكاتب الشاب ملزَمًا أن يجد رخصة كتابة من الكُتَّاب الأكبر سنًّا وخبرة، ولم تعد مساحة النشر الضيقة في "شرفات" تؤجِّل قصيدة لك أو مقالا إلى أسابيع متتالية، فعبر نقرة زر يجد أي إنسان "منبرا" خاصا به، ومن هذه النقرة وُلِدَت أسماء جديدة في عُمان، بعضها يشتغل في مجال الكتابة من قبل، وبعضها دخل مجال الكتابة بسبب "الإنترنت"، والبعض الأخير وُلِد في "الإنترنت" ويعيش فيه ولا يستطيع الخروج عنه.

تغيَّر كلُّ شيء. قبل أربعة عشر عامًا عندما دخلتُ هذا العالم الساحر، وجدتُ فيه كلَّ ما كان مفقودا في حياتي في الخارج. ككاتب شاب يحاول أن يعيش اختلافه علناً، كانت المعركة طويلة للغاية؛ بدأت بالمنتديات، إلى التدوين، ثم إلى مواقع التواصل الاجتماعي و"اليوتيوب". لم يكن هناك مكان أكثر حُريَّة من النت، وترتبط الحرية بالقدرة على إيقافها. لولا حالات العشرات، عاشت "الإنترنت" في مُصَالحة تامَّة مع الحرية، كان القانون هو الفيصل الذي يُحدِّد ما ينشر في "الإنترنت"، كان ذلك صورة، أو كلمة، أو لحنا. في السنوات الأخيرة انتهت مسألة "نخبوية الإنترنت"، وهو عاملٌ كان يحمي "الإنترنت" كثيرا في السابق. أصبح المكان للجميع، ومن الذي دخل في النهاية؟ بعد النخب والمهتمين بالتقنية؟ دخل المجتمع كاملا في النهاية عبر مرحلة مُهمِّة من مراحل تطوره ألا وهو موقع "تويتر".

ومن الاتصال البسيط إلى اتصال حِزَم البيانات، قدَّمت" الإنترنت" بدائل كثيرة للإنسان. ولأنها حققت هذا استطاعت أن تجلب المجتمع كاملا. كانت "الإنترنت" في وقت ما مساحة حرية واضحة. حتى حملت مع دخول المجتمع فيها أيضا "قوانين المجتمع" الصارمة تجاه السلوك وتجاه التعبير. الذي كان يُعبِّر بحرية في "الفيسبوك" أصبح اليوم مُقيَّدا لأنَّ العائلة كاملة موجودة معه في حسابه، يا للسخرية! المكان الذي كان يستخدمه الإنسان للهرب من الضغوط الاجتماعية جعل منها "مضاعفة". الآن، لم يعُد يُمكنك أن تحمي حسابك من تلصُّص أيِّ إنسان على حياتك، وهؤلاء الذين لديهم دوائر إلكترونية واسعة هم الذين يُعانون أكثر. انقلبتْ الحياة الإلكترونية من بديل للحياة الاجتماعية المعتادة إلى إحدى أهم وسائل حماية هذا الاعتياد. وحدث ما حدث، هذه هي شروط الحرية، للجميع بلا استثناء. كَمْ كان يومًا غريبًا عندما فُوجئت ذات يوم بإضافة في "الفيسبوك" (من والدتي!!!).. ذلك اليوم الذي أدركت فيه أن ذلك المكان الذي كان للشباب، وكان مُخصَّصا للهرب من الحياة الواقعية، قد أصبح أحد أذرع الواقع، ويا لها من ذراع قادرة على أن تنقل لأغرب غريب كل شيء عنك، فما بال القريب؟

انتهى زمن اختلاف "الإنترنت"!! الغريبُ في "الإنترنت" هو نفسه الغريب في الواقع، على عكس السابق، عندما كان الغريب في الواقع طبيعيًّا في الواقع. الجميع يُعبِّر عن رأيه، ولم يعد التعبير عن الرأي موضوعًا مُهما كما كان في السابق، لم يكن لديك في السابق سوى الكتب أو الجرائد، ومنتديات مثل سبلة العرب، وسبلة عمان. الجيل الجديد يستغرب حتى الآن موضوع الجدال عن الرأي والرأي الآخر. الجيل السابق الذي كان يراها معركة، أصبح الجيل الجديد يراه شيئا مضافا مجانا إلى حياته، مثل الكهرباء والماء والخدمات الصحية والشوراع. وصلت "الإنترنت" إلى أقصى هرم الموجة، وما بدأ الآن هو عودة الأشياء إلى طبيعتها، المجتمع يمارس السلطة على كل شيء، والحذر الذي كنت تبديه مع الناس وتتخلى عنه في "الإنترنت" أصبح مدعاة إلى فعل العكس، أصبح الواقع أكثر حرية، أقل تكلفا، وجمعنا "الإنترنت" عبر خاصية "التواصل" بالبشر الذين نشبههم والذين نحب أن نكون معهم. لو كنت سأختصر إنجاز "الإنترنت" في عُمان، فلن يكون ذلك لخاصية "النشر"، ولكن لخاصية "التواصل" فقط، على صعيد النشر: الضغوط في "الإنترنت" صارتْ أكبر، وصارتْ تُسبِّب تهديدا للحرية الفردية. ماتتْ "الإنترنت" للأسف، ماتتْ كما يموت أي شيء جميل، وأصبحت ساحة أخرى مليئة بالضجيج والزحام، لا هدوء فيها، ولا تتوقف عن السيطرة على حياتك، ماتت "الإنترنت"، ومات معها شيء جميل، ولكنها حقيقة واضحة بازغة للعيان، تلعب في شروط اللعبة ولا تسيطر عليها، وهذا شيء جميل؛ لأنه طبيعي ومنطقي وهادئ وبعيد عن الأحلام المحلقة التي لا توصل إلى مكان. "الإنترنت" هي مشنقة الحرية الجديدة، إنها شيء آخر موجود، عادي، وليس له قيمة إلا استمرار وجوده بعدما زالت الدهشة إلى الأبد.