ابتكار يحفِّز التنمية

 

حاتم الطائي

يتَّفقُ عُلماء الإدارة اليوم على أنَّ الابتكار واحدٌ من أهم الرِّهانات المستقبلية لتعزيز التنافسية وخلق بيئة اقتصادية أكثر قوَّة ومرونة، يكون بمقدورها التعاطي بكل سلاسة مع مستجدات اللحظة الراهنة؛ كونه أساسا لتقديم "حل غير تقليدي للمشكلات المُستعصية التي تعجز طرق التفكير المألوفة عن إيجاد مخرج لها"؛ وهو على ما يبدو السبب الرئيسي وراء اتجاه اقتصادات المجتمعات المتقدِّمة نحو استثمار "الموارد المعرفية"، بعيدا عن نظيرتها التقليدية؛ لما تُشكله من منظومة مُتكاملة تعزِّز إنتاج المعرفة، وتبنِّي مفاهيم مُتقدِّمة تقوم على "إنترنت الأشياء"، وربطها، والاستفادة منها في تصنيع قائم على الإبداع والابتكار.

فعلى سبيل المثال، فإنَّ لعبة مثل "بوكيمون جو" التي سيطرت على عقول الملايين حول العالم خلال الفترة الماضية، وحققَّت أرقامًا فلكيَّة في عدد مرات التحميل، كان الرابح الأكبر منها شركة "ننتيندو" المطوِّرة لها، والتي كسبتْ بفضلها 7.5 مليار دولار في يومين فقط، كأعلى دخل لشركة في التاريخ الاقتصادي. مما يعيد إلى الأذهان تجربة شركة "آبل" ذات الصيت التقني المتميز؛ باعتبارها أكبر شركة من حيث القيمة السوقية في التاريخ الصناعي الحديث، حيث تجاوزت قيمة أسهمها 623 مليار دولار في سوق المال الأمريكية، مُتخطية كُبرى شركات العالم في مجالات النفط والغاز والسيارات والعقارات؛ كأمثلة تدلِّل على أن ملامح جديدة لعالَم اقتصادي جديد آخذة في التشكُّل على وقع طفرة تكنولوجية هائلة، لن تصمُد أمام أمواجها العاتية نظريات الاقتصاد الكلاسيكي كثيراً.

ومن هذا المنطلق، وباعتباره دُعَامة رئيسية لآليَّات تطوير الاقتصاد الوطني، فإنَّ الحاجة تلحُّ الآن -أكثر من أي وقت مضى- على ضرورة إيجاد "بيئة اجتماعية محفِّزة" تضمن تطوير بيئة الابتكار في السلطنة؛ لينعكس إيجابا على زيادة جذب الاستثمارات والمكتسبات الاقتصادية التي تُسهم في دفع عجلة التنمية إلى الأمام؛ لا سيما وأنَّ فاعلية وقدرة أي كيان على الإبداع تتوقَّف على وجود ثقافة تدعم تلك المنظومة وقيمها العملية، وكذلك بيئة تشريعية تصب في هذا الاتجاه؛ بما يَضْمن تفجير الطاقات الكامنة داخل شبابنا، وبناء رأس مال بشري مُمكَّن، ضمن أداء حكومي وخاص مواتٍ من ناحية السرعة والإتقان في إنجاز المعاملات، حتى نضمن تحقيق أعلى نسبة استفادة من مساهمة الصناعة الابتكارية في الناتج الوطني الإجمالي، خاصَّة وأنَّ الرِّهان الحقيقي القادم هو القدرات البشرية الهائلة التي تؤهل -حال استثمارها جيدًا- لتحقيق مستويات أفضل في مجال التنافس عالميًّا.

وحديثٌ كهذا عن "الابتكار" و"المعرفة"، يصطدم في جزء منه بمنظومة تعليمية تحتاج إلى الكثير من التطوير؛ بل نقلة نوعية حقيقية يُمكن وصفها بـ"الثورة الشاملة" -إعدادا وتأهليها ومناهج دراسية- تُبرز المعرفة كأهم مصادر القوة الاقتصادية، بحيث تصبح عملية تنمية الموارد البشرية التي تنتج هذه المعرفة وتوظفها، هي العامل الحاسم في تحديد القدرات المهارية والوظيفية، باعتبار "رأس المال البشري" قمَّة الهرم في عصر اقتصاد المعلومات.

وفي بلادنا، وحيث تستهدف جهود حكومتنا الرشيدة توفير الرفاه للمواطن العُماني، وليس فقط تحقيق مراكز مُتقدِّمة في التقارير الدولية، فإنَّ مساعيها تتكاتف وتتآزر من أجل ضمان الانتقال من الاقتصاد الريعي القائم على النفط، إلى اقتصاد قائم على المعرفة، يُشجِّع الابتكار والبحث والتطوير، ويُعزِّز الإطار التنظيمي للقطاعات الرئيسية والقطاعات ذات القيمة المضافة العالية؛ بما يُطوِّر بيئة الأعمال، ويُزِيْد جاذبية بيئة الاستثمار. صحيح أننا لا نزال على أول الطريق، إلا أنَّ هناك توجُّها جادًّا وحقيقيًّا يُترجمه اهتمامٌ سامٍ ومساعٍ حكومية لإطلاق عنان الإبداع واستثمار إمكانات المواطنين ليقودوا عَجَلة التطوير، من خلال دَعْم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وغرس ثقافة ريادة الأعمال لدى الأجيال الجديدة؛ بما يُسهم في تخريج أفواج جديدة من الخريجين يتمتَّعون بروح الريادة والإبداع والمسؤولية والطموح، يُثرون مقومات السلطنة ويضعونها في مراكز مُتقدِّمة ضمن مؤشرات سهولة ممارسة الأعمال والتنافسية العالمية، والابتكار وريادة الأعمال، خصوصا اليوم بعد أن قطعت مسيرتنا التنموية عُمرا يقترب من نصف قرن من العمل الدؤوب، لدعم خطواتنا نحو اقتصاد تنموي مستدام قادر على إثبات نفسه على خارطة العالم.

و"الرُّؤية" باعتبارها جزءًا من هذا النسيج المجتمعي المتين، فقد أولتْ عبر نهج "إعلام المبادرات"، كلَّ الاهتمام والرعاية لاستثمار إمكانات شبابنا؛ عبر تدشين مجموعة من الفعاليات والمبادرات والورش التدريبية والتعريفية المختلفة والجوائز السنويَّة المحفِّزة؛ لتفتح آفاقا جديدة أمام الجيل القادم من شباب السلطنة لإطلاق العنان لإبداعاتهم، وكمساهمة منها في صُنع حالةٍ من الحراك المجتمعي، تدفع نحو تعزيز أركان التنمية في بلادنا؛ بتعاون مثمر طوال السنوات الماضية مع العديد من المراكز الحكومية والخاصة المهتمة بهذا الشأن؛ منها: مركز الاستكشاف العلمي بولاية إبراء، ومركز التعلم الذاتي في جامعة السلطان قابوس..وغيرهما؛ سيراً على درب رؤى سامية لقائد عظيم بأنَّ الإنسان هو محور التنمية العُمانية ومرتكزها الأساسي.

ويبقى القول في الأخير.. إنَّ واحدًا من أهم دعائم النهوض والارتقاء لمواصلة مسيرة الخير؛ يتمثل في ضرورة تعزيز ثقافة الابتكار في منظومتنا المجتمعية واستحداث مزيد من المحاضن والبرامج الابتكارية، التي تفضي لإنتاج سلع وخدمات جديدة مبتكرة تُسهم في تنمية اقتصادنا الوطني وتعزِّز قدرتنا التنافسية، بما يدفع السلطنة خطوات على طريق الاقتصاد المعرفي، ولتكون أكثر ارتباطا بالبيئة والمتطلبات الاقتصادية والاجتماعية من حولنا.