أمانة الكلمة

 

زاهر المحروقي

لم يكُن الروائي البرازيلي باولو كويلو مُبالِغاً عندما قال "إن من بين جميع أسلحة الدمار التي يستطيع الإنسان ابتكارها، تُعتبر الكلمة هي الأقوى والأكثر إثارة للرعب؛ فالخناجر والرماح تترك آثاراً من الدم، والسهامُ يمكن رؤيتها عن بعد، والسموم تُكشف ويتم تجنبها. أما الكلمة، فتستطيع التدمير دون أن تترك أية أدلة". وفي الواقع، فإنَّ هذا التعظيم لقوة سلاح الكلمة هو تعظيم صائب؛ لأنَّ الكلمة على مرِّ التاريخ كانت أقوى من سلاح القاذفات والصواريخ؛ لذا وجدنا أنَّ هناك في الدول الغربية مُتخصِّصين في صياغة خطب الزعماء وكذلك الكلمات التي يجب أن تستخدمها وسائل الإعلام حتى تؤدِّي دورَها في التأثير على الناس وتشكيل الرأي العام.

ومع ظهور القفزة الجديدة في وسائل الاتصالات، والتي أصبحتْ تستغرق وقتَ الناس كله؛ حيث حلَّت محل وسائل الإعلام التقليدية وورثت دور المجالس، صار هناك طوفان من المعلومات والأخبار والكلمات؛ منها المُوَجَّه ومنها الصادق ومنها الكاذب، وأمام هذا الطوفان اختلط الحابل بالنابل، وكادت الحقيقة تختفي إذ إنَّ الكثيرَ مما يُنشر يصيب المتلقين بالتشويش، فأصبحوا لا يدرون أين الحقيقة، ومن هو المصيب ومن هو المخطئ؟ وقد تكون القضية التي فجرَّتها جريدة "الزمن" عن القضاء في عُمان خير دليل على ذلك؛ حيث انتشرت الأخبار والأخبار المضادة، وانتشرت التعليقات، وكل واحد يُحلِّل المسألة من جانبه حسب توجهاته، وكأنَّ لديه كلَّ الحقيقة. وربما هذا ما جَعَل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية تُخصِّص خطبة الجمعة الماضية عن أمانة الكلمة؛ إذ يجب على المرء أنْ يتحرَّز من كل كلمة يقولها وكل خبر يسمعه وكل رسالة يتسلَّمها؛ فلا يُبادر إلى نشرها إلا بعد التأكد؛ ورغم الإشارات البعيدة عما يدور في الساحة العمانية من نقاشات، فإنَّ الخطبة كانت حيادية ولم تنحز إلى أي جهة، فقد حذرت من الظلم لأن عواقبه وخيمة ونهايته أليمة، وأن من أعظم الأمانات القيام بالأعمال والمسؤوليات التي تحقق العدل في المجتمع وتبعد عن الظلم، لأنه يترتب عليه نتائج مخزية.

والموضوع الذي طرحته جريدة "الزمن" هو بيد القضاء الآن، ولا ينبغي استباق النتائج، وإلا فإن كل واحد سيكون طرفاً في القضية ضد طرف آخر، وقد طَلَب مني بعض الأصدقاء -الذين يُحسنون الظن بي- أن أكتب عن الموضوع، إلا أني كنتُ مُتوجِّساً من التطرُّق إليه، فما قيل عنه يكفي لمجلدات كثيرة، ثم إنَّني حتى هذه اللحظة لا أعرف ولا أستطيع أن أُجزم الحقَّ مع من بالضبط؟ هذا غير الخوف من الوقوع في فخ الانجرار إلى الصراع دون أن أدري، كما أني خشيت أن أكون مثل شخص شارك في زفة ولا يعلم من هما العِرسان؟

لقد تم إيقاف جريدة "الزمن" عن الصدور، وتم إيقاف ثلاثة من صحفييها (وأنا أتضامن معهم تماماً؛ فالقوانين المنظِّمة لعمل الصحافة في العالم أجمع لا تجيز حبس الصحفيين، وإنما هناك بعض العقوبات كالإيقاف المؤقت أو التغريم. ولأنه تردد أن التوجه لمحاسبة صحيفة "الزمن" قضائياً سيكون بموجب المادة 31 من قانون المطبوعات والنشر، فيجدر بنا القول إن هذا القانون قديم يعود لعام 1984، وإن تلك المادة بالذات قابلة لإساءة التفسير؛ حيث إنَّها تنصُّ على أنه "لا يجوز نشر كل ما من شأنه التحريض على ارتكاب الجرائم أو إثارة البغضاء أو إشاعة الفحشاء أو بث روح الشقاق بين أفراد المجتمع"، ويكفي أن نُذَكر أن اللجنة العمانية لحقوق الإنسان أوصت في استعراضها الدوري الشامل سنة 2015 بتعديل هذه المادة للالتزام بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، كما أن صحافيين وإعلاميين اعتصموا عام 2011، طالبوا بتعديل قانون المطبوعات أو سن قانون جديد للإعلام يتماشى وروح العصر)، إلا أن الناس حتى هذه اللحظة لا يعرفون من هو المحق ومن هو المخطئ في تلك القضية؟ ومن حقهم أن يعرفوا ذلك؛ لأن القضية عندما تُطرح علناً فإنها ملكٌ للجميع. فصدور مجرد بيان عن تجاوز جريدة "الزمن" الخطوط الحمر، إنما هو بيانٌ مؤقت، ولكن ماذا عن كل ما قيل ونشر؟!

وبعيداً عمَّن هو المخطئ ومن هو المصيب -ففي اعتقادي- أنَّ القضية التي طرحتها "الزمن" أظهرت للناس أن هناك أجنحة تتصارع، وأن ثمة فراغاً ما بحاجة إلى ملئه، وأن هناك تصفية حسابات تتم عن طريق الجريدة؛ وهذا الحديث دار في الواقع بين الناس علناً ويكاد يُسمع في كل مجلس، وأن القضية هي أكبر من مجرد تحقيق صحفي وأكبر من بعض الأشخاص الظاهرين في الصورة؛ ومن وجهة نظري -ولا ألزم بها أحداً- أرى أنَّه كان يجب أن يتم احتواء الموضوع بالتي هي أحسن قبل أن يكبر فيصل إلى إيقاف الجريدة؛ لأنَّ أمر إغلاق الجريدة فتح أبواباً كثيرة لانتقاد السلطنة في الخارج. والمقصودُ باحتواء الموضوع هنا ليس إغلاقه أو لملمته وإنما الاهتمام به بفتح ملفات تحقيق رسمية مع كل الأطراف بعيداً عن الصراع عبر الصحافة مع محاسبة المخطئ أيًّا كان؛ لأنَّ هذا الموضوع لا يقل أهمية عن أحداث 2011، ولا يقل أهمية عن قضية التجسس؛ فقد شغل الناس لدرجة أن يفقدوا الثقة بالدولة، وهو أمر خطير، بل وصل الأمر بالبعض إلى أن يحاول إلصاق الموضوع إلى جهات خارجية -وهي للأسف طريقة المفلسين- لأنه عندما تكون الجبهة الداخلية قوية ومتماسكة في أي مكان في العالم، فإنَّ ذلك ضمان لعدم التدخل الخارجي في شؤونها، والأنكى والأمر أن تكون دولة مثل عُمان بتاريخها وحضارتها وشعبها عرضة للتدخلات الخارجية، وفي حالة حدوث ذلك فإنما يحدث لخلل فينا نحن، فقضية التجسس ليست منا ببعيد.

إنَّ كلَّ ما حدث من صراعات قد أثر سلباً على سمعة القضاء؛ وعندما تهتز سمعة القضاء فإن سمعة الحكومة كلها تكون في المحك. وعندما تُفقد الثقة في الحكومة فذلك مؤشر خطير، إنْ لم تظهر نتائجه عاجلاً فستظهر آجلاً؛ فحين تصل الصراعات إلى الصحافة ويتابعها كل الناس، فهذا يدل على أن هناك أبواباً موصدة، وأن قنوات التواصل بين المواطنين والحكومة غالباً تكون مسدودة، بل إن قنوات التواصل حتى بين أفراد المؤسسة الواحدة مغلقة، ويدل الأمر كذلك على أن هذه الصراعات وصلت إلى مرحلة متقدمة جدًّا؛ لذا لم يجد المتصارعون ساحة للصراع إلا عبر جريدة "الزمن"، التي استغلت الفرصة -مهنيًّا- ثم أصبحت طرفاً من أطراف النزاع بتبنيها أحد الأطراف. وموقفٌ كهذا قد يُفقدها المصداقية، رغم أنها اشتغلت في أحيان كثيرة بمهنية عالية.

لقد حدث ما حدث. ومع غياب الحقيقة عن الناس مع كثرة الأخبار والأقاويل والتحليلات، لجأ الناس إلى إطلاق الشائعات، ولا يخفى أنَّ الكلمة غير المسؤولة قد تفتح أبواب الفتن، نحن في غنى عنها أساساً؛ لأن الفتن قد تودي باللحمة الوطنية العمانية -والتي راهنا عليها قروناً كثيرة- وأمانةُ الكلمة توجب على العمانيين في هذا الظرف أن يحسنوا استعمال وسائل الاتصالات الحديثة، فلا تُتخذ لنقل الشائعات ولا لترويج الأكاذيب، ولكن قبل كل ذلك على الجهات المختصة أن تقدم للناس المعلومات الحقيقية عن القضية بكل شفافية، حتى يكون الناس على بينة ويتم قفل باب التأويلات والشائعات، وإذا ما ثبت أن الفساد قد عم كل القطاعات ووصل إلى القضاء -مثلاً- فإنَّ المنظومة كلها تحتاج إلى إعادة الترتيب ونحتاج إلى سنوات للإصلاح وبناء الثقة من جديد، وما زلتُ أعتقد أنَّ هناك مُتَّسعاً من الوقت للإصلاح قبل فوات الأوان؛ فالظرفُ التاريخي صعب، ومعظمُ الناس في قلق وكأنهم ينتظرون المجهول.