من وحي الذاكرة (4)

 

  عــلي بن ســــالم كفيتـــــان

قضينا الليل في ثكنة عسكرية أو كما يسمونها (سيبة) أبي والعم علي وأنا والمعروف أنَّ ثكنات الحراسة تكون عبارة عن حفرة في الأرض قد يصل عمقها إلى نصف قامة ومحاطة من الخارج بأكياس مملوءة بالطين لحماية من بداخلها، والمحاربون بالداخل لديهم نوافذ تسمح بتمرير مُقدمة البندقية ومساحة صغيرة للنظر، كانت بالنسبة لي ليلة صعبة فرفاق الثكنة عملاقان ومساحتها ضيقة أحدهما يكون في المناوبة والآخر نائماً بينما أنا لا نائم ولا صاحٍ، مع خيوط الفجر الأولى أذَّن العم سعيد (هيظور) رحمه الله وكانت مناداته بمثابة الخلاص من هذه الحفرة خرجنا للصلاة معاً وتم تبديل الحراسة برجلين آخرين أحدهما هو العم علي مسعود رجل ذو قامة فارعة وأخلاق عالية كان يُداعبني بالمحارب الصغير، بعد الصلاة التي اصطفَّ لها قرابة الأربعين رجلاً جلسنا لتناول الفطور مع الجميع بحضور الإنجليزي (حثينوت) الذي كان غير راضٍ عن نومي في المُعسكر ولكن رغم أهميته كرجل يحل جميع المشاكل الفنية في الموقع فلم تكن له طاعة بين المحاربين ولا أحد هنا يعترف بالطاعة إلى للرجل الأول وهو (حسن محاد صيراد) قائد فرق هذه المنطقة.

وفي تمام السابعة توافد الطلبة إلى المدرسة من كل الأنحاء وكانوا من جميع الأعمار، تناولوا الفطور بينما أنا كنت اتلمَّس لنفسي صديقًا بينهم فالجميع يكبرونني سناً باستثناء (محمد أحمد)، وفعلاً جلسنا معاً على التخت الأول في الخيمة الكبيرة المنصوبة وسط المعسكر، دخل الأستاذ أحمد وقف الجميع وأذكر أننا رددنا نشيداً عربياً قديماً (بلاد العرب أوطاني) طلب مني المُعلم الوقوف فوقفت ولم يكن رأسي ظاهراً لصغر سني واضطر ليطلب منِّي القدوم ناحيته أمام الجميع فرحب بي الأستاذ وعرَّفني على الزملاء في الصف الذين يتجاوز عددهم العشرين تقريبًا وصفقوا لي بحرارة كم أسعدني ذلك ودفعني لبذل المزيد خاصة وأنني متأخر عن العام الدراسي قرابة الشهر.

كانت أكثر المحطات سعادة عندما استلمت الكُتب الدراسية وهي عبارة عن المنهج القطري الذي كان يدرس تلك الأيام كتب زاهية، وصور جميلة، لا زالت رائحة الكُتب الجديدة التي أعشقها في مخيلتي إلى اليوم، وكان الدرس في مادة اللغة العربية، ومن ثم الحساب، وبعدها درسنا التربية الإسلامية قبل وقت الفسحة الذي يتسابق فيه الجميع إلى مطبخ المُعسكر بينما يوزع (محمد يشاع) الخبز على الجميع بإشراف أحد الرجال، ويقبع تحت الشجرة أبريق شاي الحليب القريب حجمه للمرجل يتوجه له الجميع للتزود بما يكفي من الشاي لذيذ المذاق، هي لحظات لا تنسى أسلوب حياة جديد ويوم مختلف عن كل الأيام التي اعتدتها، أحببت هذه الحياة وأحببت جميع أعمامي المحاربين في المعسكر الذين حبوني وافتخروا بي كوني الصغير الذي اجتاز حاجز الصبر في تلك الفترة الصعبة فكنت ألقب بـ (الصبري). بعد انتهاء اليوم الدراسي الأول رجع الجميع إلى داره باستثنائي فكان داري هو المُعسكر وأهلي هم المحاربون، في المساء قدمت طائرة عمودية (هيلوكوبتر) وقبل أن تحط على الأرض قفز منها رجل متوسط القامة لديه بندقية من نوع مُختلف، ويحمل مسدساً في خاصرته وعنده منظار في رقبته، الكل كان واقفاً لاستقبال القادم وعلى رأسهم قائد المعسكر (سعيد محمد انشيراس) والإنجليزي (حثينوت) إنّه القائد الشيخ حسن بن محاد صيراد - رحمه الله- رحب الجميع به وجلسوا تحت ظل الشجرة بينما الطائرة لا تزال رابضة في طرف المعسكر  تنتظر على ما يبدو مغادرة القائد لموقع آخر من موقع الموجهة.

الظاهر أنّ القائد لديه تعليمات لعملية كبرى ناقش الجميع حيث كان واقفاً متكئاً على بندقيته والجميع جالسون في حلقات حوله، رجل لا تنقصه الشجاعة، ولا الهيبة، ولا الدهاء الكل يستمع له ويأخذ تعليماته بعين الاعتبار خاصة أنَّه ذكر في حديثه اسم السلطان عدة مرات وكأنه على صلة مُباشرة به، كما وعد بأن جلالته سيزور المعسكر عقب الانتهاء من المُهمة القادمة فانتاب الجميع فرحة عامرة وكان لهذا الخبر دور كبير في رفع الروح المعنوية قبل المعركة الكبرى الفاصلة المراد إنجازها وهي معركة (فشع) لقطع خط الامدادات الرئيسي للثوار.

استودعكم الله موعدنا يتجدد معكم بإذن الله.

حفظ الله عمان وحفظ جلالة السلطان.

 

alikafetan@gmail.com