حكاية منسية

 

 

 علي بن سالم كفيتان

نعم ذهبت تلك الاميرة الجميلة الى مضارب البدو البعيدة وتركت رذاذ الخريف وأثرت جفاف الصحراء وشظف العيش لتلبس تلك المفازات الموحشة ثوب الحياة، تسكب من جسدها الطاهر سائل لؤلؤي ضارب الى الخضرة يسر الناظرين، ويشفى المرضى، ويجلب الحظ للعاثرين، ويضفي نوع من الحماية والهيبة على ردهات الكنائس والمعابد، هناك في النواحي البعيدة تعتلي شجرة اللبان، مرتفعات سمحان، وواحات حوجر الفسيحة، وتحكي القصة صمود شعب عظيم، أهدى للعالم أغلى سلعة على مدار التاريخ.

لقد تنكر الجميع لتلك الاميرة وبينت معطيات الحياة أن الانسان يبحث عن الدعة والرفاهية وبمجرد ظهور الزيت الأسود أو كما يسمونه الذهب الأسود هجر ملاك اللبان منازلهم، وضعن التجار والجامعون ارض اللبانة، وافتقدت طرق اللبان صوت قوافل الابل المحملة بالرائحة الملكية، كما خلت مخازن انظور، وسمهرم من اللبان، عندما ازور تلك الانحاء واجلس وحيدا يخيل لي أن العير قادمة الى واحة انظور وان صوت الحادي لا زال يتردد في انحاء المكان ولكني عندما اصحو من غفوتي لا أجد سوى قطيع من الحمير البرية تحت نخيل الوادي الجميل وبين جداوله الاسرة وأسأل نفسي اين ذهب الناس ؟؟؟ ويجيبني الجبل الصامد أمامي بأنهم انصرفوا لشأن أخر سيدي.

ذهبت اجر رجلي الى داخل الوادي على اجد مؤنس في هذا الليل البهيم ولم اجد سوى احذية مهترئة من المشي وروث الحمير وبقايا نار في كهف صغير، قضيت ليلتي تلك في ذلك الكهف القصي عن الناس وقلت عسى ان يأتي من أوقد النار ولكنه لم يعد وعند الفجر لملمت اغراضي واكملت المسير فاذا بشبح يركض ولكنه ليس ابيض بل اسود سالت نفسي هل هو رجل ام امرأة لاحقته وانا انادي تعال ولكنه اختفى في بين خيوط ظلام الفجر ومفازات الجبال الشاهقة ومع بزوغ الشمس وتوغلي لمنابت الاميرة (لبانة) زادت مشاهداتي لتلك الأجساد المنهكة على حنبات الوادي تعلوهم علامات الخوف والريبة من هذا القادم على قدميه من مضارب المرفهين الذين هجروا هذه الحقول منذ عشرات السنين، وحق لهم ان يستغربوا فهم القادمون من ويلات الحروب والفقر والمرض وهم الذين تنكر الجميع لعروبتهم رغم وجود علم بلادهم يرفرف في ساحة الجامعة العربية.

لقد ذهلت لما رأيت من اشباه البشر في تلك الوديان، يشربون من بقايا السيول في بطون الاودية رغم أن المياه اسنة ورائحتها نتنة، ويركبون الحمير، ولا سلاح لهم الا عصى وجزرة في بعض الأحيان، وينامون في الكهوف، يحافظون على صلواتهم ولا زالوا يرفعون الاذان ويسبحون لله في تلك المناطق المنسية، انهم أناس من زمن اخر، ومع ذلك فهم ملاحقون وخائفون ربما لشعورهم بأنهم مثل أصحاب الكهف، وربما لأننا لم نتقن التعامل معهم كبشر، واليوم عندما أصبح الكيلو الواحد من اللبان الحوجري يوازي في قيمته أربعة براميل نفط شد الجميع الرحيل للوادي، وتفنن في عمليات الجني للحصول على اكبر قدر من الانتاج في اقل وقت ممكن واستخدموا في ذلك كل السبل الشرعية وغير الشرعية بما فيها استغلال هؤلاء الهاربون من جحيم الحياة فصرنا نشترى عرقهم باقل الأسعار لنعيد بيعه بأعلى الأسعار  في ردهات المولات الفارهة والفنادق الفخمة، هنا من الذي يهدر الموارد ليس الابل التي ترعى وتدمر ما تبقى من أشجار اللبان بل مالكها هو الفاعل، ومن يبكي اليوم على اطلال جفاف أشجار اللبان في جبل سمحان هو من يتعاون مع الفقراء من خلف الكواليس ليأكل عرقهم ويستغل عوزهم.  

وصلت لأميرتي اللبانة ووجدتها تبكي بوجه مشرق سعيد وقالت لي أن هؤلاء البشر المنهكون هم اولادي لأنهم اتوني عندما هجرتموني وأصبحت انا لقمة العيش لهم ولأسرهم المشردة في الأرض بينما أنتم تعج موائدكم بما لذ وطاب وتقذفون ما تبقى منها في صناديق القمامة. فوجدت نفسي أكرم منكم، وقررت أن أموت من أجلهم.

استودعتكم الله موعدنا يتجدد معكم بإذن الله.

حفظ الله عمان وحفظ جلالة السلطان.

 

alikafetan@gmail.com