ذِمم ماليَّة مُنضبطة

 

حاتم الطائي

لم يكُن الخليفة عُمر بن الخطاب حِيْنَما كاتَبَ واليه على مِصْر عَمْرو بن العاص -بعدما فشتْ للأخير فاشية من الخيل والإبل والعبيد- سائلاً إياه بأن يُفيده بأصل ما بدا عليه من ثراءٍ -ومؤصِّلا لسؤال "من أَيْن لك هذا؟"، يُدرك أنَّه يَرْسِم مَعَالم شديدة الوضوح لسياسة اقتصادية مُلهِمَة تهتدي بها اقتصاديات عالم اليوم؛ كاختصار لمفهوم "الذمة المالية" وإقرار براءتها؛ بما تُشكله من ضمانة للحافظ على حُرمة المال العام ابتداءً، واستقرار المستقبل الاقتصادي الكافل لعدالة اجتماعية في توزيع الثروات كغاية كُبرى يجب أن تُدرك.

وهو حديثٌ قديم جديد، يتَّسق مع ما بات يجتذب نُظم الإفصاح المالي من اهتمام مُتزايد، في ظل تغوُّل ظاهرة "الفساد" التي تتَّسع رقعتها يومًا بعد آخر، مُتمدِّدة بجذورها العميقة، وآخذة أبعاداً واسعة تتداخل فيها عوامل مختلفة يصعب التمييز بينها، وتختلف درجة شموليتها من مجتمع إلى آخر، وهي ظاهرة "مقلقة جدًّا" حظيتْ على مدى سنوات طوال باهتمام دُوليٍّ واسع، وعلى مُختلف الاختصاصات كالاقتصاد والقانون وعلم السياسة والاجتماع.

ولعلَّ إقراراً للذمة المالية يُخَطُّ قبل مباشرة المسؤولين أعمالهم -يوضَّح فيه ما يمتلكونه من دخل وممتلكات وأصول- يعدُّ وسيلة بديهية وبسيطة لضمان تفكير هؤلاء المسؤولين مرتين قبل أن يحاولوا التربُّح بطريقة غير مشروعة من وظائفهم العامة؛ فالخوف من الانكشاف هو القوة التي تدفعهم لعدم القيام بهذه الأعمال غير الأخلاقية، بل وتذكِّرهم بالتزاماتهم تجاه المجتمع بما يُساعد على الوفاء بواجباتهم والنمو بمؤسساتهم؛ وهو ما يُمكن اعتباره بمثابة وعاء يحوي الحقوق والالتزامات المالية التي تترتب للمسؤول في هذه الدائرة الحكومية أو تلك؛ سواءً في الحال أو المستقبل.

ومِن هذا المنطلق، يُعتبر الإقرارُ مجرد "وثيقة براءة" لا "وثيقة اتهام"، تحمل في طياتها الشفافية والسرية؛ فشفافيتها تبدأ من حيث شَرَع الموظف بكتابة إقراره فهو الرقيب على ذاته، وهو المسؤول عمَّا يُسطِّره قلمه، والسرية تنطلق من حرص إدارة تلك الإقرارات عليها. وهي في الأول والأخير تستهدف دعم جهود الحكومات لمكافحة الفساد، والتصدي لحالات الكسب غير المشروع، ومنع استخدام الوظيفة العامة لتحقيق مكاسب خاصة؛ والمساعدة في كشف وملاحقة مُرتكبي جرائم الفساد والحد منها، بما يُعزز الثقة في مُؤسِّسات وأجهزة الدولة.

ومع مَطْلَع الأسبوع الماضي، اعتمدَ جهازُ الرِّقابة المالية والإدارية ضَوابطَ جديدة للذمة المالية للمسؤول الحكومي، تتضمَّن البيانات الشخصية له وبيانات الزوج/الزوجة والأولاد القُصَّر، والأموال العقارية المملوكة والمنقولة والأوراق المالية والحصص في الشركات والأرصدة النقدية والعضويات المتعلقة بمجالس إدارات الشركات والمؤسسات واللجان والجمعيات الأهلية أو الهيئات الخاصة العاملة في المجال الرياضي أو منظمات محلية أو إقليمية أو دولية أو غيرها؛ سواء كان ممثلا لحصة الحكومة، أو أي شخصية اعتبارية، أو بصفة شخصية؛ في مسعى يهدف للحافظ على حُرمة المال العام، وبما يتوافق مع ما يوليه مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- وحكومتنا الرشيدة من دعم مُطلق وغير محدود لمحاربة أوجه الفساد في كافة الجهات الحكومية؛ كضامن حقيقي لعدالة توزيع الثروات.

فالتعديلات الجديدة التي أُدخِلت على مُستند الذمة المالية -والتي تأتي في مرحلة دقيقة يمرُّ بها اقتصادنا الوطني- هي في رأيي "خطوة إيجابية جدًّا" لضبط الأداء؛ لا سيما وأنه لا توجد بيئة عمل بِدعًا من البيئات الأخرى، نزيهة إلى درجة لا تحتاج إلى مثل هذا الإجراء الوقائي؛ وهو ما يفتح الباب مرة أخرى أمام إمكانية -بل ضرورة- توظيف كل الآليات المتاحة لتمشيط القطاع العام والخاص "بمشط ناعم" لاستئصال شأفة الفساد؛ ومُواصلة العمل وسَن مزيدٍ من التشريعات التي تضمن إكمال أنظمة الإفصاح بطريقة تتلاءم مع البيئة المحلية، وأنْ يتم دَعْم هذا الإجراء إعلاميًّا ومجتمعيًّا على أنه مثال يُحتذى به، وليس بابًا من أبواب التخوين أو التشكيك في الذمم؛ فهو إجراء وقائي يهدف لبراءة وعون الشخص المكلَّف والجهات الرسمية في تحقيق مُتطلبات مبادئ النزاهة والشفافية.

وفي ذات الوقت، تأتي التعديلات الجديدة مُتسقة مع توجهات الرؤية الاقتصادية 2020، التي تُؤكِّد مبادئها على التنافسية والعدالة، واللتين تتطلبان شفافية الإفصاح والوضوح في الإجراءات وتوافر البيانات والمعلومات لأهل الشأن الاقتصادي لاتخاذ القرارات المناسبة في الأوقات المناسبة؛ خدمةً لاقتصادنا الوطني واستدامة نموه. وهذه الشفافية بالتأكيد ستدعم المناخ الاستثماري، وستُساعد في ترسيخ عوامل جذب المستثمر للعمل في سوق تضم في أحضانها ثقة ونزاهة واستقرارًا؛ كمحاولة لخلق بيئة تكون فيها المعلومة المرتبطة بالظروف والقرارات والأعمال متاحة ومتطورة ومفهومة.

... إنَّ جهودَ التطوير التي يقوم بها جهاز الرقابة المالية والإدارية في السلطنة باتت -ولله الحمد- على قدر المرحلة؛ حيث يُلاحظ فيها التركيز على الأهداف؛ بما يوفِّر حمايةً أكيدة وواجبة للأموال العامة، ويسهل التحقُّق من استخدام الموارد بطريقة اقتصادية وبكفاءة وفاعلية؛ بما يصبُّ في وجهة الإصلاحات الاقتصادية والسياسية التي يَشْهَدها مجتمعنا العُماني، والتي تتدفَّق دون توقف مع تزايد حركة التحديث التي تشكل نمط وجود، خصوصا وأنَّ ديمومة التحديث وترابط المصالح محليًّا وعالميًّا، سيُساعدان في خلق ثقافة جديدة في الشفافية والنزاهة والمساءلة، تولِّد رُؤية قادرة على إبعاد المستقبل عن أن يكون تكراراً للماضي.