مدرين المكتوميَّة
قرار السفر والابتعاد والرحيل لا يعني دائمًا البحث عن المتعة والاستجمام؛ ففي بعض الأحيان يكون عبارة عن حل للكثيرين منا ليذهبوا بعيدًا عن العالم الذي ينتمون إليه، وليكونوا مع أنفسهم؛ فالحاجة للبقاء مع النفس قد تكون سببا من أسباب السعادة. ولأننا غالبا لا نختار ما نحب فنحن نفشل في اختيار من نفارق؛ فتجدنا نفضِّل البقاء في غرفه مظلمة لا تضيء بها إلا مصباح صغير في زاوية ضيقة، وربما نضطر لإجراء اتصال قصير مضمونه تذكرة سفر بتاريخ معين، ولربما ذهاب بعودة مفتوحة.
ثمَّة عِشْق يربطنا بالسفر؛ فنتنفس الرحيل كرحيق الأزهار، ونستشق بوادره كما نستشق عطر من نُحب؛ فنحلِّق عاليًا بأرواحنا ونحن نسمع صوتًا يُنادينا من بعيد بالصعود على متن الطائرة للانتقال من هذا العالم الذي يكاد يكون محفوظا عن ظهر قلب، إلى عالم آخر مجهول يحتاج منا لبحث وتقصٍّ واستكشاف. ومن هنا، تكمُن متعة السفر، في التعرف على أشخاص جدد لربما مع الوقت يُصبحون أناسا لا نستغني عنهم في حياتنا، ولربما يكونون المستقبلَ الذي نبحث عنه ولا نجده إلا خارج نطاق المكان والزمان والشخوص لنسرد معهم أجمل قصصنا وحكاوينا.
ومن الأحرى أن أتحدث أيضا عن عشق العُمانين للسفر؛ فنحن شعب يُحب السفر والترحال منذ بداية التاريخ. وهذا الصيف يبدو أنَّ الجميع شِبه مُسافر لمختلف بقاع العالم؛ فثقافة السفر أصبحت جزءا لا يتجزأ من طبيعة المواطن العماني، فمن لم يسعفه الوقت ليسافر مع والديه أو في طلب العلا، شق طريقه مع الأصدقاء ورحل ليعرف ما وراء السفر، وما هو العالم المخفي الذي لا يراه ويحكي تفاصيله الآخرون، وما هو الشغف الذي جعل الرغبات تزداد للتجربة، فبات الشباب يؤمنون بالادخار الذي يُمكِّنهم من خلاله أن يعيشوا تجربة تضاف لرصيد تجاربهم الحياتية.
ومن أجمل الأسفار التي يظل ذكراها في أذهاننا، هو السفر وحيدًا أو برفقة أصدقاء، فهم من يجعلون للرحلة مذاقها وذكرياتها كقطع السكر الذائبة في نهاية كوب الشاي، والسفر لا يعني أننا نكون سعداء بما نقوم به؛ فلربما السعادة تكون من مشهد أو موقف حصل، أو من نظرة عابرٍ تُثير تساؤلات عمَّا يدور حوله، أو موسيقى لعازفة ناي على طريق مليء بالمارة، يشكرونها ببعض العملات المعدنية في قبعتها المتسخة، وقد تكون في حزين يكتب مذكراته فتنسكب القهوة على تلك الأوراق ليجعل من معطفه أداة تنظيف ليحمي كلماته من الضياع دون الالتفات لثمن المعطف الذي اتسخ... مشاهد لا تذهب عن البال وتراودنا بين الحين والآخر، مشاهد لها طابعها الجميل في قلوبنا، نتذكرها كلما شعرنا بأننا أفضل بكثير من غيرنا، وأنَّ القَدَرَ أعطانا فرصة أن نكتشف العالم من حولنا، ونرى تلك المواقف البسيطة لننسج بها ذاكرة لا تنتهي.
هذا النوع من الثراء الروحي والذهني والمعرفي بالفعل يستحق أن ننفق عليه كما ننفق على الكتب وحفلات الموسيقى، هذا ما يميزنا عن أناس تعيش لتأكل وتنام ولا يعمها من نفسها سوى ما تحت الكتفين. أما ما داخل الرأس والقلب والروح، فهو آخر ما تحفل به، وحتى للأسف بين من يدمنون السفر وتعج أوراق جوازات سفرهم بالأختام من يذهبون ويعودون بلا ذكريات تثري أرواحهم، من يسافرون لممارسة ما يرونه "حرية" مُفتقدة في بلادهم، أو من يسافرون لمجرد التبضع، ومن يسافرون لمجرد التباهي والاستعراض وإضافة ختم جديد على جوازاتهم، كل هؤلاء أجساد سافرتْ وعادتْ، وأرواح لم تكسب من الرحلة شغفا ولا توهجا، هؤلاء محرومون من نعمة الصفاء والشغف بالجديد، وهؤلاء يخسرون كثيرا.
وفي النهاية، يحضرني ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله: "تغرَّبْ عن الأوطان في طلب العلى، وسافر ففي الأسفار خمس فوائد: تَفَرُّج همٍّ، واكتساب معيشة وعلم، وآداب، وصحبة ماجد".
madreen@alroya.info