هل نظرية المؤامرة حقيقة أم خيال..؟

 

زاهر بن حارث المحروقي

انتقلت الأمة العربية في تاريخها الحديث، من مأساة إلى أخرى، أمام عجز النظام الرسمي عن إيقاف تلك المآسي؛ بل ساهم فيها هذا النظام بصورة أو بأخرى، حتى وصل العجزُ عند النَّاس إلى أن يرجعوا كلَّ المشكلات والأزمات التي تمر بالأمة إلى التآمر الغربي على العرب والمُسلمين. وقد انقسم النَّاس حيال الموضوع إلى فريقين؛ أحدُهما يُنكر نظرية المؤامرة تماماً ويرى أنّ كلّ ما أصابنا إنما هو نتيجة لأفعالنا ونتيجة لعجزنا عن مواكبة التطور في الحياة الإنسانية (وهو رأي وجيه). أما الفريق الثاني فيرى أنّ نظرية التآمر على الأمة هي نظرية حقيقية وأنّ كلّ ما أصابها إنما هو بفعل ذلك التآمر، وله من الأدلة ما يُثبت رأيه ذلك، ومنها أنّ تلك المؤامرة تتلخص في تدمير الثقافة والعادات والأخلاق العربية والإسلامية في المجتمع، ويتم ذلك عن طريق استخدام وسائل الإعلام الحديثة، (وهو أيضاً رأي له وجاهته). وأمام الرأيَين فإنّ السؤال المطروح هو: هل نظرية المؤامرة حقيقة أم خيال؟!.

     أظن أنّ الوقوف في الوسط في هذه المسألة هو الأصح، لأنّ الاعتماد على أنّ العالم يتآمر على العرب والمسلمين، دون معرفة لماذا ينجح هذا التآمر لن يعطي الإجابة الصحيحة؛ فالخلل في الأمة نفسها، إذ لماذا لم ينجح التآمر على الآخرين من غير العرب؟، فلو أنّ أساس بنيان الأمة قوي لما نجح ذلك التآمر.

أما عن وجود هذا التآمر فإنّ بعض التصريحات الأخيرة تكشف عن ذلك، ولعل ما يحصل الآن لسوريا خير دليل، حيث كان الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني رئيس وزراء قطر السابق صريحاً وواضحاً عندما قال في حديث نشرته صحيفة الـ "فينانشال تايمز" البريطانية في 15 إبريل 2016: "عندما بدأنا ننخرط في سوريا كان لدينا ضوء أخضر بأنّ قطر هي التي ستقود، ولكنّ السعودية دخلت على الخط وأصبحنا نتنافس مع بعض، وهذا لم يكن صحياً"؛ فالشيخ حمد أوضح أنّ هناك ضوءاً أخضر للانخراط في تدمير سوريا - وإن لم يحدد من أين صدر هذا الضوء -، وأنّ الخلاف حدث فيما بعد على القيادة فقط. ثم إنّ تقرير السير جون تشيلكوت حول الحرب على العراق أظهر عبر أكثر من مليونين ونصف مليون كلمة أنّ الحرب على العراق كانت غير ضرورية وما كان يجب أن تقع، وحمّل التقرير الحكومة البريطانية وعلى رأسها توني بلير مسؤولية المشاركة في قتل وتدمير العراقيين، بعد سبع سنوات من البحث والتحقيق. والتقرير يحمل نتائج وإجابات عن سؤال رئيسي هو ما هي الأسباب التي دفعت بريطانيا إلى مشاركة الولايات المتحدة في غزو العراق؟. ومن أخطر ما كشف عنه تقرير لجنة تحقيق "تشيلكوت" أنّ بلير كان يتبع بوش كالأعمى، وأنّ بريطانيا لم تكن استنفدت كلَّ خيارات السلام وتعجلت الذهاب إلى الحرب تنفيذاً لمشيئة بوش بإزاحة الرئيس صدام بالقوة. وبعد سنوات سنقرأ تقارير مشابهة عن ليبيا وسوريا واليمن، وكأنّ الأرواح التي ذهبت وتذهب سدى ليس لها قيمة.

     إنّ المؤامرات موجودة؛ ولكن النظرة تختلف بين المتآمرين والمتآمَر عليهم، والموقف التالي ربما فيه شرح لهذه العبارة؛ ففي كتابه "رياح السموم" يذكر الصحفي والناشر اللبناني رياض نجيب الريس أنّه حضر عام 1993 ندوة مغلقة عن قضايا الخليج والجزيرة العربية في إنجلترا؛ فقال له دبلوماسي بريطاني سابق عمل سفيراً لبلاده في إحدى الدول الخليجية ثم في طهران فالأمم المتحدة في نيويورك إنّ العرب يهيمون بنظرية التآمر، لأنّهم يملكون عقلاً تآمرياً من طراز رفيع، فهم أبرع من حاك المؤامرات ضد بعضهم البعض، والأمثلة كثيرة منذ الخمسينات وإلى اليوم؛ (وهو محق في هذا)، فالعرب حسب رأيه يعتقدون أنّ هناك مجموعة من الناس في الغرب تجلس تحت الطاولات وتتآمر عليهم وهي تعّدّ الخطط وتنظم الانقلابات وتدفع المال من أجل إحداث التغيير الذي تُريده، وبالطبع هذا ليس صحيحاً؛ ويقول الدبلوماسي البريطاني إنّ الصحيح أنّ في الغرب مؤسسات للتخطيط السياسي والاقتصادي، مهمتها استشراف مستقبل الدول في ضوء المُتغيرات الحاصلة دوماً في العالم، وفي ضوء معلومات دقيقة وأبحاث علمية وإحصاءات رقمية ومراقبة إعلامية واستماع مستمر لمجريات الأمور فيها؛ فتعِّدُّ هذه المؤسسات تقارير عن أوضاع هذه الدول باستمرار، تطرح فيها دائماً إمكانية التغيير في الأنظمة، وقضايا الخلافات على التركة السياسية للحكم، والخروج من تحالفات معينة والدخول في تحالفات جديدة، والتعديلات الممكنة في الحدود؛ إلى جانب الأوضاع الاقتصادية والمالية لهذه الدول، وتزن القوى الاجتماعية المتصارعة فيها. كما تدرس القوى المعارضة داخل كلِّ دولة، ومن هم حلفاء النظام ومن هم أعداؤه؛ فتعد عدة سيناريوهات قابلة لكلِّ الاحتمالات. إنّ هذا هو علم التخطيط السياسي، الذي لم يتقنه العرب بعد، لذلك تعقد بانتظام الندوات والمؤتمرات والحلقات في الجامعات ومراكز البحوث توصلاً إلى استشراف المُستقبل السياسي والاقتصادي لكلِّ بلد من بلدان العالم، فتوضع الخطط والخطط البديلة، تحسباً لأيِّ احتمال. والذين يضعون هذه الخطط – والكلام للدبلوماسي البريطاني – ليسوا مجموعة متآمرين إنّهم من أصحاب العقول والفكر والخبرة، كلٌ في مجاله يفكرون ويخططون ويدرسون كافة التطورات الممكنة، في أجواء عملية بعيدة عن الخيال، تحاول التوفيق بين المُمكن والمستحيل. ويقول الدبلوماسي البريطاني "إنّ الزعماء والسياسيين العرب ما زالوا يفاجَأون بهذه التقارير والمعلومات، فيعتبرونها مؤامرة، لأنّهم لم يعترفوا بعد بعلم السياسة بالشكل والطريقة اللذين يمارس بهما في الغرب الديمقراطي، ولأنّهم لا يملكون مؤسسات شبيهة ولا أنظمة تبيح هذا النوع من التفكير والبحث والتخطيط، فمن السهل عليهم تكذيبها واعتبارها عملية تآمرية ضدهم. كلّ ما نفعله نحن في الغرب عبر هذه المؤسسات والمراكز أننا نحفظ دائماً مصالحنا عبر كلِّ الاحتمالات الممكنة وندفعها في هذا الاتجاه، فإذا التقت مصالحنا مثلاً مع المصلحة العربية كان الأمر مفيداً للطرفين، أما إذا لم تلتقيا، فمصلحتنا هي الأساس، لذلك يعتبر العرب وغيرهم أنّ تغليب مصلحتنا على مصلحتهم نوعٌ من التآمر".

     إنّ ما قاله الدبلوماسي البريطاني يوضح الفرق بين دول تدرس الواقع والمُستقبل وتضع على ضوء ذلك الخطط والسيناريوهات ضماناً لمصالحها، وبين دول تعيش على الهامش بلا دستور ولا مؤسسات بحث ولا تضع إستراتيجيات للمستقبل ثم ترمي كلَّ ما يأتيها من الويلات والمصائب على التآمر فقط. وفيما كتبه الصحفي الراحل أحمد بهاء الدين يشير إلى المعنى نفسه؛ إذ كتب أنّ أجهزة التخطيط في إسرائيل أعدّت بعد حرب 1967 كتاباً شهيراً عن المنطقة عام 2000، على أساس أنّ إسرائيل صارت مفتوحة تماماً على العالم العربي. وفي الكتاب إجابات عن أسئلة هامة، مثل أين سيكون المال، وأين توجد الثروة الطبيعية، وأين توجد الثروة البشرية، وأين توجد الأسواق؟ وغيرها من الأسئلة، ولكن المؤسف – حسب بهاء الدين - أنّ موسسة الدراسات الفلسطينية ردت بكتاب تعرّض لنفس الموضوع عن دور إسرائيل، ولكن المسؤولين العرب لم يطلعوا عليه مجرد اطلاع. وقد تحقق لإسرائيل ما أرادته في فترة مُبكرة من التاريخ بينما اختفى العرب واختفت قوتهم. وفي هذا يرى المفكر الكندي المسلم محمد غيلان أنّ التركيز على نظرية المؤامرة هو خط الدفاع الأخير للضعيف الذي تقّبل عجزه وأقرّ بعدم قدرته على تغيير وضعه الراهن؛ فالإيمان بنظرية المؤامرة اعتراف ذاتي بالهزيمة المعنوية، وهذا أخطر أنواع الهزائم لأنّ الإنسان إذا قبل بالانهزام المعنوي فلا سبيل له بعد ذلك إلى أن يُفكر بطريقة سليمة، فضلاً عن أن يخطط أو يفعل أيَّ شيء إيجابي تجاه تحسين واقعه.

تعليقُ فشلنا على شماعة المؤامرات سيستمر، طالما أنّ الأنظمة العربية تعيش على الهامش، وأنّ المواطنين فيها مجرد رعايا عليهم أن يأكلوا ويشربوا فقط؛ وطالما أنّ المؤسسات المدنية مجرد ديكورات لتزيين "العملية الديمقراطية"، فكلُّ ذلك يجعل المؤامرات تنجح فيما تفشل في الأماكن الأخرى من العالم.