الإرهاب لا دين له؟!

 

 

فيصل الحضرمي

وتستمرُّ العمليات الإرهابية ضد المدنيين العزل في مختلف مدن العالم، ويستمر الذبح والتفجير والدهس باسم الله وباسم الجهاد. باريس، بروكسل، أورلاندو، كاليفورنيا، نيس، فولسبورج، ميونخ، إنسباخ، وقبلها باريس الجريحة بانتظام، ومدن عديدة أخرى دفع فيها المدنيون المتسوقون أو المتنزهون أو المسافرون أو العاملون أو المحتفلون بعيدهم الوطني حياتهم ثمناً لأهداف ومخططات وردات فعل على أحداث وقعت في أماكن تبعد عنهم آلاف الكيلومترات ولا ناقة لهم فيها ولا جمل.

في العراق، وسوريا، وأفغانستان، وفلسطين الجريحة منذ الأزل، ومناطق مسلمة كثيرة، قتل ويقتل ظلماً الآلاف من المسلمين الأبرياء الذين لم يذنبوا في حق قاتليهم، ويتخذ منفذو الهجمات الإرهابية سقوط هؤلاء الضحايا الأبرياء ذريعة لحصد مزيد من الأرواح البريئة، ولكن من الطرف المقابل هذه المرة. وما إن تسقط ضحية في العالم الغربي نتيجة لاعتداء يشنه أحد المسلمين حتى ترتفع حصيلة الضحايا المسلمين الذين يزعم الإرهابيون أنهم يأخذون بثأرهم وينفذون الهجمات لخدمتهم ونصرة دينهم وتحرير أوطانهم ورفع الأذى عنهم. فالمسلمون هم أول من يتضرر من مثل هذه الهجمات التي تزيد من كراهية الشعوب الغربية لهم "الإسلاموفوبيا" وتعلبهم في خانة المغضوب عليهم والمشتبه بهم؛ مما يجعل عملية اندماجهم في المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها أكثر صعوبة مما هي عليه الآن ويحيل حياتهم هناك إلى توجس وقلق دائمين.

"الإرهاب لا دين له": عبارة مُبتذلة تشف عن حالة إنكار مستعصية ولها أضرارها الجسيمة. أتذكر بدايات ظهور هذه المقولة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر من العام 2001 في نيويورك. كان الهدف الأساسي من تبني المقولة إعلاميًّا -حسبما أتصور- تثبيط الشباب عن التعاطف مع مثل هذه العمليات والحيلولة دون انضمامهم للحركات الجهادية، خصوصاً "القاعدة" عبر التأكيد على أنَّ هذه الهجمات لا تعد جهاداً في سبيل الله وليست مما يقره الإسلام. كانت الغاية نبيلة ومعقولة ولكنها بقدر ما نجحت في مسعاها فإنها في المقابل تجاوزت مرحلتها واستهلكت الغرض منها وأصبحت تشكل عائقاً أمام كل محاولة لفهم الإرهاب فهماً صحيحاً يمهد الطريق نحو اقتراح الحلول التي يمكن عبرها الحد منه أو القضاء عليه.

الحقيقة أنَّ الإرهاب له دين. ودينه دين الذين يشتركون في تمويل وتخطيط وتنفيذ العمليات، وليس يفيد أحداً إنكار هوية وانتماء الفاعلين. وبقدر ما نؤخر إقرارنا بهذه الحقيقة المرة بقدر ما نؤخر اللحظة التي نضع فيها أيدينا على الجرح وننتقل بالتالي من مرحلة التشخيص إلى مرحلة العلاج. إنَّ الزعم بأن "المسلمين" الذين ينفذون العمليات الإرهابية ليسوا مسلمين ولا يمثلون الإسلام "الصحيح" ما هو إلا محاولة متناقضة للتنصل من التهمة التي تقتضي الشجاعة والحصافة الإقرار بالمسؤولية عنها. وهو زعم متناقض لأنه ينفي عن المجرمين صفة الإسلام أحياناً وأحياناً أخرى يقر بأنهم مسلمون بالفعل ولكنه يعتبر إسلامهم فاسداً وغير صحيح. وبدلاً من هذا التخبط، فإن من الأفضل الاعتراف بأن هناك أشكالاً مختلفة من الإسلام وإن بعضها مما لا يمكن السكوت عنه بل ومما يجب مجابهته والحد من خطورته.

هؤلاء الإرهابييون الذين يتلذَّذون بقتل الغربي "الكافر" "عدو الله" و"عدو المسلمين" يعتبرون إجرامهم جهاداً في سبيل الله، ويعتقدون بأنه الطريقة الأمثل للفوز بالجنة ونعيمها ولتحقيق الغايات السياسية التي يطمحون إليها وعلى رأسها تخليص البلدان المسلمة من الهيمنة الغربية حتى تخلو لهم الساحة ويصبح في مستطاعهم إقامة شرع الله وتطبيق الشريعة كما يدعون دون أن يخفى على أحد أن المسألة برمتها ليست إلا شبقاً مرضياً للوصول إلى السلطة والاستبداد بها فيما بعد عبر دكتاتورية باطشة تنصب نفسها خليفة لله على أرضه.

الطريقة الأمثل للتعامل مع هذا الفكر الإجرامي هي تعريته من أساساته، عبر نقد نصوصه المؤصلة التي يستنبط منها أطروحاته وتأويلاته وتخريجاته وتهويماته التي يتكئ عليها لتبرير إجرامه وإرهابه ولا إنسانيته، ولن يكون هذا النقد ممكناً إلا بعد الاعتراف بأن هؤلاء الإرهابيين يمثلون فئة من المسلمين وأنهم ينهلون أفكارهم المتطرفة من نفس النصوص المقدسة التي ينهل منها بقية المسلمين، وأن الاختلاف يقع غالباً في طريقة التفسير والتأويل وليس في الهوية والانتماء. ولن يكون هذا النقد ممكناً إلا بعد أن يتواضع أولئك الذين يحملون على عاتقهم مهمة تعليم الناس دينهم "الصحيح"، ويعترفوا بأن الحصاد المر الذي يجنيه العالم اليوم لا يعدو أن يكون الثمار المسمومة لعقود وعقود من غرس البذار الفاسدة في القلوب وفي العقول.

على الدول المسلمة أن تلتفت لخطر الخطاب الديني المتطرف. عليها أن تغربل جميع الأدبيات الدينية التي توجه فوهة مدفعها لقطاعات واسعة من المجتمع ممن تم ترويضهم على أخذ ما يأتيهم بقضه وقضيضه، بغثه وسمينه، بسمه وعسله، واضعين عقولهم وحدسهم وحسهم السليم في إجازة أبدية. على هذه الدول أن تفيق من غفوتها وتشرع في العمل الجاد لمواجهة هذا الخطر الذي يتهددها ويتهدد العالم بأسره ويحاصر مدنه الجميلة بالذعر والارتياب.