يوليو العزيز..!

عائشة البلوشيَّة

أُصَاب بحالة الهيام ذاتها في كل مرة أقف مُتأملة تلك اللوحة المهيبة في بهو منزل والدي -رزقني الله حسن بره- لوحة لا تتجاوز المترين ونصف المتر عرضا، والمتر ونصف المتر طولا، رسمها الفنان الأسترالي الرائع "ديفيد ويليز"، أغرق في تلك التفاصيل الدقيقة التي تنضح جمالا، مصورة قلعة "نخل" وأمامها صف رائع من الرجال مع جميع الفئات العمرية، وهم يهزجون في لوحة شعبية رغم صمتها أجدها ناطقة، وأجول ببصري فيها ﻷشبع أحداقي بنمنمات الييئة العُمانية الغنية بالدقائق، وزرقة السماء تضفي عليها حميمية وشفافية لا مثيل لهما، ومنذ أن انتهى الفنان "ديفيد ويليز" من رسمها ووقعت عليها عيناي ﻷول مرة، أسميتها بيني وبين نفسي "لوحة الصف الواحد والبنيان المرصوص"، وحقيقة لم يخطر في خلدي أن أسأل عن اسمها ﻷنني أردت أن أستمتع بجمالها الأخاذ من زاويتي الخاصة، فكل منا لديه عدسته الخاصة وزاويته المنفردة عندما ينظر إلى أي لوحة فنية، وبالنسبة لي هذه اللوحة تجمع بين عدة معان ذات دلالات قوية، بين معنى الأصالة العُمانية الضاربة في عمق عصور التاريخ، ومعنى الييئة التي حبا الله تعالى بها هذه البقعة من الأرض، وبين تمسك الإنسان العُماني بأرضه وموروثه ولحمة صفه؛ فالتراث فيهما متمثل في ذلك البناء الحصين من الآجر والجص، والبيئة الخلابة حاضرة ضاحكة بطول اللوحة وعرضها، ويأتي الإنسان العُماني ليكون هو العلامة الفارقة الموجودة منذ العصور الغابرة، بوحدة صفه التي -بفضل الله- لا تتفرق أو تنشق؛ فجاء الصف الواحد في اللوحة ممثِّلا لذلك البنيان المرصوص المتماسك في عُمقها، وتلمس السعادة الطافحة على الوجوه في تلك التفاصيل، لوحة لا يمكن للمتذوق إلا الوقوع في غرامها.

وأتساءل إذا كانت لوحة زيتية لرسام بريطاني أشعلت وتشعل بي كل هذه الأحاسيس، فكيف ستكون بي الحال لو ركبت دولاب الزمان وعدت إلى الثالث والعشرين من يوليو عام 1970م، في الساعة الرابعة عصرا، أمام قصر الحصن في صلالة؟! كيف سأستقبل نبأ تولي حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم لمقاليد الحكم في البلاد؟ أي سعادة تلك التي سأعيشها وأشاركها كل من حولي؟! أغوص عشقا في تفاصيل ذلك اليوم عندما يسرده والدي -رزقني الله حسن بره- ولا أمل من ذكره لتلك اللحظات وتكرارها، رغم أنه دائما ما تغرورق عيناه بالدموع عندما يستحضر تلك الذكريات، خصوصا تلك اللحظة العفوية التي تهافت فيها الشعب بحب عظيم نحو سلطانه الغالي وحملوه فوق الأكتاف، كانت الفرحة أكبر من استيعابهم، والسعادة تفوق مستوى تعبيرهم، وعندما يتدخل العسكر هناك -ومن ضمنهم والدي- لينزلوه من على الأكتاف، فيمشي بخطى ثابتة ممتشقا بشته الأسود ليلقي على الجماهير المتعطشة لسماع صوته أول خطاب.

الإنسان العُماني وقوته وبأسه وحبه للعلم والعمل هو ما وعاه مولاي حضرة الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه وسدد على دروب الخير خطواته- فقد أدرك منذ صباه أن الإنسان العُماني لحمة واحدة يلتف حول ولي أمره، يعاهده على الفداء والولاء والسمع والطاعة على كل شيء، أدرك -و هو المعروف بفراسته- أن الإنسان العُماني صبغة فريدة من الصبر والجلد، وعندما حانت اللحظة القدرية في عصر ذلك اليوم البهي من الثالث والعشرين من يوليو العزيز، عاهد شعبه على التقدم والرقي والرخاء، فوفى بما عاهد وبدأ يذرع عُمان شبرا شبرا، ولا يأبه بالأحوال الجوية التي تفرضها الظروف الجغرافية، فيضرب خيامه في الخلاء، وينصب مجالسه في البوادي، ويصغي للمرأة، ويضحك من قلبه لتعليقات رجل مسن، ويحاور الطفل الصغير، ويزور المرافق الحكومية سرًّا وعلنًا.

يوليو هذا ليس شهرا، بل هو ضيف يحل على كل أسرة عُمانية، يأتي زائرا ليضفي على عُمان سحرَ وأسرار الرقم (7)، أو كما يعرف لدى الإغريق (هيبتا)، حيث إنَّ إعجاز الله في خلق سبع سماوات، وسبع أرضين، وسبعة هي أيام الأسبوع، وخلق الله الأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش في اليوم السابع، وغيرها الكثير والكثير من الأسرار، فيأتي الشهر السابع من عام سبعين بقيادة سلطان وهب نفسه ليضفي على عُمان بأنوار العلم والعمل والانفتاح والسلام، ترى لو أراد أي فنان رسم لوحة لذلك اليوم العملاق فكيف سيستطيع إدراك تفاصيلها؟ حتى وإن جلس مع جميع من حضر تلك اللحظات الحاسمة، التي امتلأت بأجمل المشاعر، لعمري سيرفع بياض ريشته استسلاما! فكيف لا يكون لهذا الشهر حب عظيم في نفوسنا بعد كل هذا؟! وكيف لا يهنِّئ بعضنا بعضا بهذا الشهر الجميل.

كل عام بلادي -شعبا وأرضا- ترفل في أثواب العزة والرخاء والسؤدد تحت اللواء الخفاق لمولاي حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المفدى -يرعاه الله ويحفظه- ذخرا وفخرا لكل من أحب عُمان!

--------------------------------

توقيع: "زرعتها بقلبك شبرا شبرا

فبادلك العشق كل ذي روح

وكل شجر ومدر وذر....."!