"إنا عرضنا الأمانة" (2)

 

عائشة البلوشية

 

"إنما بعثت ﻷتمم مكارم الأخلاق"، هكذا قال الأمين صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله، وبالرغم مما اشتملت عليه بعثته صلى الله عليه وسلم من مختلف أمور الدين والدنيا، إلا إنه كان يعطي الحيز الأكبر للأخلاق، وقد لقب بالأمين قبل بعثته بأعوام كثيرة، ﻷنه تخلق بهذا الخلق النبيل، فشهدت عليه قريش والعرب كلهم بأنّه الصادق الأمين، وربما جاء التصرف الحكيم في يوم هجرته ليلقن الجميع درسًا في أهميّة الأمانة، وأنّها تأتي على رأس الأخلاق الإنسانية، فقد جعل عليًّا كرم الله وجهه يلتحف ببردته، وينام في فراشه ليؤخر المشركين من اكتشاف هجرته، وكان السبب الرئيسي لبقائه كي يعيد الأمانات إلى أهلها، ليصيب المجتمع القرشي بالذهول، وأنّ عداوتهم له صلى الله عليه وسلم، وهجرته من مكة لم تكن لتثني هذا الأمين عن الوفاء بالأمانات إليهم؛ وقد جاء في الآية 26 في سورة القصص على لسان ابنة نبي الله شعيب (إن خير من استأجرت القوي الأمين)، وهنا نلاحظ أنّها لم تقل الصالح أو التقي أو غيرها من الصفات، بل حددت معيارين رئيسيين لتعيينه أجيرًا لدى والدها النبي: قوة البدن، وقوة النفس في خصلة الأمانة، وكأنها تضع هذه الصفة لتكون على رأس قائمة السيرة الذاتية ﻷي شخص، ونجدها اليوم تترجم في شهادة حسن السيرة والسلوك، أو شهادة عدم المحكومية، للتثبت من أمانة المتقدم للوظيفة أو الدراسة.

وكنت قد تطرّقت في المقال السابق إلى بعض من أشكال الأمانة في حياتنا اليومية، لذا يأتي إنفاق المال والحصول عليه بالطرُق التي حللها الله لنا كأحد أشكال الأمانة، فمثلما نحن مطالبون بالكسب المشروع، فإننا ملزمون في الجانب الآخر بإنفاق المال في الجوانب المشروعة أيضا؛ ويأتي حفظُك لمال غيرِك في شكل من أشكال الأمانة، فقد يلوذ بك صديق أو أي شخص رآك أهلا ليأتمنك على بيتِه أو ماله في غيابه، لذا ستجد أنك يجب أن تبقي ما أمنك عليه محفوظا كما هو لحين عودته مهما طال غيابه، فليس من المعقول أن تتصرف في أي شيء حتى وإن كان هذا الشخص شقيقك، كما أنك إذا تداينت بدين فعليك أن ترده إلى صاحبه دون مماطلة أو ذل، ودون أن تقلب الطاولة وتجعله يتوسل إليك مستجديا ماله، وإذا لم تكن تملكه كله فتحدث إليه بلين ولطف وقسّط له المال، فكم من شخص أضاع هذه الأمانة وقاطع مقرضه، والأنكى أنّه أصبح يتهرّب منه و يتحدث عنه بالسوء.

الأولاد أمانة، فكُل أب أو أُم يمنحه الله نعمة الأبناء لتربيتهم تربية سليمة، وتوجيههم نحو كُل ما هو صحيح ومقبول في الدين، فأين هو ذلك الأب يوم القيامة عندما يعرض للحساب وقد زور شهادة مرضية لابنه الطالب حتى يجد مخرجا له بعد رسوبه في إحدى المواد، وماذا سيقول لرب العزة عندما يسألك عن الأمانات التي خنتها، فقد خنت الله في تربية ابنك، وخنت وطنك ﻷنك ساهمت بهذا الأسلوب في غرس الخيانة في طباع ولدك، وعلمته أن الاحتيال ليس خيانة للأمانة بل هو ذكاء وقوة على القوانين، قد تستصغر هذا الفعل، وتقول هي ليست سوى درجات عشر في تلك المادة، ولكن هل تدرك أنك بهذا الفعل أدخلت الحرام في مسيرة حياة ولدك كلها أنت ومن أعانك في هذه الخيانة؟.

 

إن الصلاة التي تؤديها خمس مرات في اليوم يجب أن تُؤدى بالطريقة المثلى، أي أن تتعامل معها بأنها أمانة، وهبها الله لكَ لتتقرب بها إليه، واختصك من بين كل الأمم بهذه القربى، لتظل تلك الصلة الروحانية طوال اليوم والليلة بينك وبين خالقك الكريم، وكذلك بقية العبادات من صوم وزكاة وحج؛ حفظك لعرضك وعرض أهلك هو أيضاً أحد أشكال الأمانة، فلا تُقدم على فعل الفواحش، وعليك أن تعلم هذه الأمور لأهلك، وأنّ الأعراض أمانة، نحن محاسبون على التفريط فيها؛ بل إنّ شجرة تغرسها في ساحة دارك هي أمانة في عنقك، يجب أن ترعاها وترويها، وطير أو حيوان تقتنيه ويظل تحت رحمة أن تطعمه وتسقيه هو أمانة يحاسبك الله عليها، فكلنا يعرف قصة المرأة التي دخلت النار في هرة، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.

وعملك الذي تسعى في مناكب الأرض لتكسب به رزقك يعد من أهم وأثقل أنواع الأمانات المحسوسة، ﻷنّ التفريط في هذه الأمانة سوف يعود وبالا على مؤسستك التي تعمل بها، بالتالي على وطنك وينسحب ذلك على أمتك وعلى الإنسانية جمعاء، فعلى سبيل المثال أن تقوم بتسريب معلومات خاصة بعملك لأحد المنافسين في مناقصة ما، سوف يدمر مؤسستك على المدى البعيد إن لم يكن القريب، وما الذي ستجنيه؟ مالا حراما؟ وأين ستكون أيّها المدير في إحدى الدوائر الحكومية صباحًا ومستشارًا سريًا في إحدى الشركات الخاصة التي ترتبط مع عملك الحكومي ارتباطا وثيقا، وتتفق مع الرئيس التنفيذي لتلك الشركة ليلا حول إنفاذ أمر ما، مذكرا إياك بالسخاء الذي ينفحك إياه مطلع كل شهر، فتترأس تلك اللجنة المعنية صباحا، وترغم الجميع على التوقيع بالإجماع لتصدر تعميما يجبر الجميع على استخدام الأوراق الصفراء كأوراق رسمية لجميع المؤسسات التي تقع تحت إشرافك، وتمنعهم منعا باتا من استخدام أي لون آخر وإلا أصدرت قرارا بغلق المؤسسة المخالفة، أين أنت أيها المدير من الثلاثية التي نعاهد الله عليها كل حين؟ أين أنت من (الله، الوطن، السلطان)؟ هل هانت الأمانة في عينك وزين الشيطان الخيانة في نظرك، وقلت في نفسك (لست الوحيد الذي يخون وأنا محتاج للنقود وربي سيغفر لي)، ولكن هل سيغفر لك كل من ظلمتهم بقرارك هذا؟

الأمانة هي من صفات المُؤمنين، وهي مرتبطة بكل شيء ابتداء بالكلمة التي تنطلق من أفواهنا وأقلامنا، مرورا بأجسادنا وجوارحنا، وانتهاء بكل فعل ورزق، ولا يُمكن أن نجد مُؤمنا حقا خائنا، ﻷن المؤمن يعلم تمام العلم أن آية المنافق ثلاث، وجاءت خيانة الأمانة لتكون إحداها، وإيمان المؤمن يُحتم عليه بالفطرة أن يكون أميناً على كُل ما يمتلك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " لا إيمان لمن لا أمانة له

توقيع: (واتقُوا يَومًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلى اللَّه ثُمّ تُوَفّى كُلّ نَفسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُم لَا يُظلمُون) البقرة آية 281