الانسحاب البريطاني يكشف عورة الاقتصاد الرأسمالي المعاصر

عبيدلي العبيدلي

تواصل نتائج الاستفتاء البريطاني حول الخروج من الاتحاد الأوروبي تداعياتها، وتستمر معها التحليلات بشأن الأسباب الكامنة وراء تلك النتائج، والتكهنات التي تستقرئ مستقبل طرفي العلاقة: الاتحاد الأوروبي من جهة، وبريطانيا من جهة ثانية. وتزداد النقاشات حدة عند الوصول إلى نقطة الأسباب والدوافع التي جرت بريطانيا إلى هذا القرار الذي يحمل في ثناياه ما يطلق عليه تعبير الخسارة المتبادلة (Loose Loose Situation).

البعض، في سعيه للبحث عن الأسباب، انجرَّ نحو نظرية المؤامرة، وأشار بأصابع الاتهام إلى واشنطن؛ كونها -وربما يكون محقا في ذلك- المستفيدة الأكبر، وعلى أكثر من مستوى، من تلك النتائج؛ فمن جانب يضمن خروج بريطانيا لواشنطن تراجع حجم أكبر كتلة اقتصادية تنافسها في الأسواق الدولية، ومن جانب آخر يتيح لها هذا القرار البريطاني إحكام قبضتها على حليفتها الإستراتيجية وتجيير لذلك لمشروعاتها الدولية، خاصة في المناطق الملتهبة مثل الشرق الأوسط.

البعض الآخر، حاول رؤية القرار من زاوية المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزتها جحافل المهاجرين الذين قذفت بهم الحروب المتتالية التي عرفتها الساحة الدولية، بدءا من تلك التي انفجرت في أوروبا الشرقية، خاصة في البوسنة والهرتزج، وصولا إلى مناطق الشرق الأوسط المختلفة، والتي شكلت -الهجرة- هاجسا أقض مضاجع الاقتصاد البريطاني، كما تناقلت وسائل الإعلام على لسان نسبة عالية من أولئك الذين صوتوا لصالح الانسحاب.

لكنَّ التوغل في عُمق الظاهرة، بدلا من التوقف عند سطحها الخارجي، يكشف الكثير من المشكلات التي تواجه بريطانيا على وجه الخصوص والعالم الرأسمالي على وجه العموم، ومن ثم فمن الحكمة رؤية القرار البريطاني كتعبير ملموس عن أزمة بنيوية خانقة تمسك بتلابيب الدول التي تقود العالم الرأسمالي من أمثال بريطانيا.

وفي البدء، ينبغي التأكيد على قضيتين مركزيتين عند معالجة قرار الانسحاب؛ الأولى: أنَّ المشكلات التي أثيرت -ومن بينها تلك التي تتعلق بالمهاجرين القادمين من مناطق مختلفة غير متناسقة مع النسيج الاجتماعي البريطاني- ليست ظاهرة طارئة على دول الاتحاد الأوروبي، فتاريخيا، كانت الدول المستعمِرة ومعظم الدول الكبرى في الاتحاد من أمثال فرنسا وألمانيا وبريطانيا، تنتمي لهذه الفئة، وكانت ترحب حينها بالهجرات المتعاقبة من البلدان التي تستعمرها، بل وتشجعها، لأنها كانت تسد ثغرة في الوظائف التي يرفض سكان الدول المستعمِرة مزاولتها، إما لأسباب اجتماعية، أو نظرا لتدني أجورها. وعليه فمثل هذه المشكلة، دون التخفيف من وزنها، لا يمكن ان تكون السبب الرئيس الذي رجح كفة من ينادون بالانفصال. أما الثانية وهي أن القول بكون بعض قوانين وأنظمة الاتحاد تثقل كاهل المواطن البريطاني، فهذا سبب مردود عليه أصلا، إذ احتفظت بريطانيا منذ انتسابها لعضوية الاتحاد بهامش واسع من الاستقلالية لم تنعم بها أي من نظيراتها من الدول الأعضاء الأخرى. هذا ينطبق على النظام الضريبي، ونظام الهجرة والجوازات، بل يمتد كي يشمل بعض جوانب النظام المالي والمصرفي.

عليه، فإن السبب الجوهري والرئيس الذي يقف وراء هذا القرار، بعد ان نال أصوات الأغلبية، هو ان هناك أزمة بنيوية يمر بها النظام الاقتصادي العالمي، عبرت عنها مجموعة من الانفجارات المتلاحقة التي عصفت به منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، وتجسدت بشكل ملحوظ فيما عرف بأزمة العقار، التي سبقتها ما أطلق عليه "انفجار فقاعة الإنترنت" في الولايات المتحدة التي يشكل اقتصادها ما يربو على25% من الاقتصاد العالمي.

والحديث عن الأزمة البنيوية يقودنا بالضرورة إلى تفسير قدرة الاقتصاد الرأسمالي الحر على الصمود في وجه الأزمات التي مر بها منذ تأسيسه، وفي مرحلة لاحقة تمأسسه في مطلع القرن الثمن عشر. في تلك المرحلة، وعلى وجه التحديد بعد نضج الثورة الصناعية، نجح منظرو الاقتصاد الرأسمالي من أمثال آدم سميث، وريكاردو، وكارل ماركس، وآخرين، وأتباعهما، من تأطيره في نظريات راسخة تحمل في طياتها مقومات تساعد على التطور الذي تنشده المجتمعات الذي تأخذ بالرأسمالية نموذجا لاقتصاداتها.

ارتكز الاقتصاد حينها على هامش الربح -العيني أو النقدي- الذي ينتج من العمليات المالية أو الصفقات الاقتصادية التي تتم في نطاق قوانين وآليات ذلك الاقتصاد. حينها كانت الرافعة الاجتماعية التي يحتاجها الاقتصاد منسجمة ومتناغمة مع النسق الاقتصادي والقوانين التي تنظم حركته. تماهى ذلك مع انتماء الدول التي قادت حركة الأسواق العالمية هي الدول الأكبر حجما على المستوى الاقتصادي، وأكثر تطورا على المستوى التعليمي، وأقوى نفوذا على الساحة الدولية. وعزز من قوة هذا الاقتصاد ورسوخه، انتعاش حركة الاستعمار التي أمدت الدول الرأسمالية المستعمِرة بما تحتاجه من مواد خام، وعناصر الطاقة التي تسير مصانعها، والأسواق الواسعة التي تستقبل منتجات تلك المصانع.

أما اليوم فقد اختلف الأمر بفضل بروز ظاهرتين: الأولى تفوق الاقتصادات الصغيرة، مثل السنغافوري والكوري الجنوبي على تلك الكبيرة، او امتلاك القدرة التنافسية لها، كما شاهدنا في صناعة تقنيات الاتصالات والمعلومات، ودخول لاعبين جدد في هذا المضمار من أمثال الصين بما يحتله اقتصادها الداخلي من قوة تساعدها على المنافسة في الأسواق العالمية الخارجية.

أما الثانية فهو تحول الاقتصاد بفضل ثورة الاتصالات والمعلومات من الارتكاز على الإنتاج الجمعي (Mass Production)، إلى الاقتصاد المعتمد على النتاج الفردي (Individual Production)، على نحو مفاجئ، لم تسبقه نظريات تؤسس له وتأطره كما حدث في الثورة الصناعية، فكانت ردة فعل القوى المتحكمة في وسائل الإنتاج تلقائية وعفوية.

لذا؛ فمن الخطأ الانجرار وراء تلك التفسيرات السطحية التي تبتعد عن السبب الرئيس وهو الأزمة البنيوية التي تعصف بالاقتصاد الرأسمالي وترغم الدول الأكثر رخاوة فيه، ومن بينها بريطانيا، على اتخاذ قرارات قد تستر جزءا من عورة تلك الأزمة، لكنها لن تستطيع أن تخفي ذلك الجزء الأكثر إصابة في جسد ذلك الاقتصاد.