على عتبات عيد "سعيد"...!

إضاءة

مسعود الحمداني

(1)

بعد أيامٍ، ستعود الحياة إلى طبيعتها في المنازل.. ستخلو المطابخ من أنواع المعجنات، والمشهيات، وستتخلَّص الثلاجة من بقايا الأطعمة المكدَّسة، وستخرج الزوجة من "عرينها" لتعود إليه الحولَ المقبل، وسوف ينتهي "الدلال" الرومانسي الذي انغمس فيه الزوج شهرا كاملا حافلا بالبذخ، والسخاء الحاتمي، وأكل فيه ما لذ وطاب من مأكولات لم تخطر على باله، وشهد بأم عينيه موهبة زوجته في فنون الطهي العالمي، بمساعدة "الشغالة" طبعا، وكتاب "تعليم الطبخ".

بعد أيام، ستشتهي الأسرة "الجيلي" و"الكريم كراميل" فلا تجده إلا في الأحلام، وسيشتاق الجيران لأطباق جيرانهم الشهية، وسيتوزع ما نأكله في نصف ليلة، إلى حلقاتٍ مُتصلةٍ من النهم الذي يصاحبنا طيلة يومٍ كامل، ورغم ذلك سنفتقد أشياءً كثيرة لا تطيب إلا في رمضان.

(2)

بعد أيام، ستعود الحياة إلى طبيعها في الوزارات؛ حيث سيتكدَّس المراجعون في المؤسسات، وأمام موظفين اعتادوا على وجوههم وتعاملاتهم، وسيعلو الصراخ أحيانا حين يكتشف المراجع أنَّ معاملته التي قضتْ أشهر في الوزارة لا تزال نائمة في درج الموظف، ولن تفيد عبارة "اللهم إني صائم" في كبح جماح موظفٍ مُتكاسل، ومُراجعٍ مغلوبٍ على أمره، فمن لم يهذب سلوكَه الصيامُ لن يهذبه طول المقام.

الجميع سيحتفظ بنمط تعاملاته إذا لم تكن هناك إرادة حقيقية للتغيير الذاتي.. رمضان فرصة مهمة لـ"إبدال" سلوكٍ محل سلوك، ولكنه لا يملك العصا السحرية لفرض خلقٍ جديد دون رغبة "صاحب العلاقة".

(3)

الشيء الوحيد الذي لم يتغيَّر طيلة شهر رمضان هو صوت المدافع والرصاص في سوريا واليمن والعراق...وغيرها. لم يستطع شهر رمضان أن يُهذِّب تلك النفوس المتعشطة للدماء، وتلك الرغبات الدفينة لقتل الأخضر واليابس، وذلك السلوك العدواني العنيف تجاه كل ما هو إنساني، وكل ما يمت للحياة بصلة.

أخبار القتل لم تنقطع، وأنباء الموت لم تفارق الإذاعات، ومقاطع الدم زادت، فشهر رمضان -في نظر المتأسلمين- شهر جهاد، وحين نجبُن أمام العدو الحقيقي، فكل مسلم أو غير مسلم يصبح عدوا قابلا للقتل.

(4)

حدث في رمضان: ((شقيقان "متأسلمان" يقتلان والدتهما المسنة، ويطعنان والداهما وأخاهما بالسكاكين)).. يا لهول الجريمة، ويا لبشاعة الجرم!

من علَّم مثل هؤلاء الجهلة أنَّ أول خطوة إلى الجنة تمر عبر جثث الأحبة؟! من علَّم مثل هؤلاء أن لا معنى للحياة، وأنَّ الموت في سبيل "البغدادي" هو نفسه الاستشهاد في سبيل الله؟!

راجعوا الأفكار المتشدِّدة التي غرسها بعض "رجال الدين" في أذهان الأجيال، وذهبوا إلى عالم الموت، وبقيت الغلواء في كتبهم شاهدة على انحراف رؤيتهم، ولم يعِ أولئك العلماء حين أفتوا بقتل النفس البريئة، وتكفير المخالفين لعقيدتهم بفداحة ما ارتكبوه من فكر، ولو عاد بعضهم إلى الحياة لربما رمى بكل ما كتب في أول محرقة، وتبرأ مما لم يكتب بعد.

قتلا أمهما، وحاولا قتل أبيهما وأخيهما! أي نارٍ قد تحرق مثل هؤلاء؟!

(5)

في العيد، ستبدو الحياة بديعة، ومبهجة للبعض، وقد لا يمرُّ عيدٌ على كثير من الناس، أولئك الذين فقدوا أحبتهم، وغيَّب الموت فلذات أكبادهم، وغاب عن المشهد أحد أحبابهم.

ستبدُو الصورة قاتمة في دول لم تذق فرحة العيد منذ زمن، وستبدو الأعياد حالكة في نظر بشر فارقوا أوطانهم، وها هم يعيشون غربتهم ومراراتهم، ولن تفيد مساحيق العيد في تلوين حياتهم البائسة؛ فلنتذكرهم بألم، ودعاء... ونحمد الله على ما نحن فيه من نعم!

فسلامٌ عليك يا وطني، وأدام الله أمنك وأمانك، وحفظ سلطانك وأبناءك.. وكل عيدٍ وأنتم تنعمون بطمأنينةِ الحياة، ومصابيحَ الأمل.

[email protected]