البلسم الشافي (الجزء الرابع)(16)

حمد بن عبد الله بن محمد الحــــوسني*

أيها الإخوة الأكارم والأخوات الكريمات، بدأنا في اللقاء الماضي بذكر ما قاله المفسرون وبينوا من معاني الآيات: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا. يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [سورة الإنسان: 29-31]؛ ليتضح لنا جلياً أمر مشيئة البشر وعلاقتها بالمشيئة الإلهية.

وقد ذكرنا ما قاله العلامة القرطبي في تفسيره.

ويقول العلامة محمد بن جرير الطبري في تفسيره (جامع البيان عن تأويل آي القرآن): [قوله:(إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ) يقول: إن هذه السورة تذكرة لمن تذكر واتعظ واعتبر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل؛ ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله:(إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ) قال: إن هذه السورة تذكرة.

وقوله:(فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا) يقول: فمن شاء أيها الناس اتخذ إلى رضا ربه بالعمل بطاعته، والانتهاء إلى أمره ونهيه.

القول في تأويل قوله -تعالى-: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا. يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).

يقول - تعالى ذكره-: (وَما تَشاءُونَ) اتخاذ السبيل إلى ربكم أيها النّاس (إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ذلك لكم؛ لأنّ الأمر إليه لا إليكم، وهو في قراءة عبد الله فيما ذُكر(وَما تَشاءُونَ إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ). وقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) فلن يعدو منكم أحد ما سبق له في علمه بتدبيركم.

وقوله: (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ) يقول: يدخل ربكم من يشاء منكم في رحمته، فيتوب عليه حتى يموت تائباً من ضلالته، فيغفر له ذنوبه، ويُدخله جنته.

(وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) يقول: الذين ظلموا أنفسهم، فماتوا على شركهم، أعدّ لهم في الآخرة عذابًا مؤلماً موجعًا، وهو عذاب جهنم. ونصب قوله: (والظَّالمِينَ)؛ لأن الواو ظرف لأعدّ، والمعنى: وأعد للظالمين عذابا أليماً. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله: (ولِلظَّالِمِينَ أعَدَّ لَهُمْ) بتكرير اللام، وفد تفعل العرب ذلك، وينشد لبعضهم:

أقولُ لَهَا إذا سألَتْ طَلاقًا... إلامَ تُسارِعينَ إلى فِرَاقي؟

ولآخر:

فأصْبَحْنَ لا يسأَلْنهُ عَنْ بِمَا بِهِ... أصَعَّد فِي غاوِي الهَوَى أمْ تَصَوَّبا

بتكرير الباء، وإنما الكلام لا يسألنه عما به].

والحقيقة أن كل عاص لله -تعالى- سواء كان بالشرك أو بما هو دونه من الكبائر أو صغائر الذنوب التي يصر عليها أو يستصغرها ويستخف بها يعتبر ظالماً ما لم يتب إلى الله -سبحانه وتعالى- منها؛ فيستحق بسبب ذلك العذاب الأليم -والعياذ بالله من ذلك-، ومن تاب تاب الله عليه.

ويقول ابن كثير في كتابه (تفسير القرآن العظيم): [قال -تعالى-: (إن هذه تذكرة) يعني هذه السورة تذكرة (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) أي طريقا ومسلكا، أي من شاء اهتدى بالقرآن كقوله - تعالى-: (وماذا عليهم لو ءامنوا بالله واليوم الآخر) الآية، ثم قال -تعالى-: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) أي لا يقدر أحد أن يهدي نفسه ولا يدخل في الإيمان ولا يجر لنفسه نفعاً (إلا أن يشاء الله إنّ الله كان عليما حكيما) أي عليم بمن يستحق الهداية فييسرها له ويقيض له أسبابها ومن يستحق الغواية فيصرفه عن الهدى وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة؛ ولهذا قال - تعالى-: (إن الله كان عليما حكيما)، ثم قال -تعالى-: (يدخل من يُشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما) أي يهدي من يشاء ويضل من يشاء؛ فمن يهده فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له].

* أمين الصندوق بالجمعية العمانية للعناية بالقرآن الكريم، والمشرف العام لمسابقة رتل وارتق للقرآن الكريم

تعليق عبر الفيس بوك