صِناعة الإعلَام

سلطان بن خميس الخروصي

يُمثل الإعلام أحد الأضلع الرئيسية في منظومة بناء الدولة الحديثة؛ فهو واجهة التحضُّر والمدنيَّة، ومن خلاله تُساق مشاعر جموع البشر وعقولهم لتصب في اتجاهات ورؤى وتيَّارات متباينة، ففي السلك السياسي والعسكري يشهد التاريخ أنه ذات يوم وحينما دكَّت بوارج الغزاة وطائراتهم أرض الرشيد كان الإعلام سلاحا فاعلا في الحرب النفسية بين العدو والمُعتدى عليه؛ فبينما كانت بغداد تُقتطف شيئاً فشيئاً كان (سعيد الصَّحاف) - وزير الإعلام العراقي السابق - يعلو عرش أحد المباني الشاهقة بالمدينة الخضراء ويغرِّد للإعلام العربي البائس ببعض أحلام المُعدمين أن بغداد صامتة في وجه (العلوج)، فهلَّل العُربان شريفهم وخائنهم لبسالة الجيش العربي العراقي العظيم!، وما هي إلا هُنيهة من الزمن حتى اعتلى العلم الأمريكي قصور بغداد ومؤسساتها العسكرية والمدنية!، إلا أنّ هذه اللفتة القوية في معمة الحرب بُنيت على قواعد متينة جعلت من هكذا إعلامي يخرج أمام عشرات القنوات ويختزل الحرب ولسان حاله "الأمور طيبة"!.

وفي الجانب الديني والوعظي نجد أن الفضاء العربي والعالمي أضحى يموج في طلاسم الفتاوى القويمة والسقيمة على حدٍ سواء، فالمواطن العربي بدا له واضحاً أن هذا الزحام الإعلامي المُتحجِّر قاب قوسين أو أدنى نحو التهام الإعلام المعتدل الذي ينتهج بساطة الدين الحنيف، فبدأنا نلحظ قنوات تنادي جهارًا نهارًا بعزة "الله" وتفويض الأمر له، وهي تظهر مشاهد تشمئز منها قلوب وعقول النفس البشرية من ذبح وقتل وجلد وصنوفا أليمة من العذاب السقيم والتي تذكرنا بالقرون الوسطى لأوروبا والتي عرفت بمحاكم التفتيش والتي كانت تسحق كل مخالف للكنيسة الأرثوذكسية، فكيف لمن يتبنى سماحة الدين الكريم وهو "يجتزُّ" رأس مسلم يشهد بوحدانية الله ويؤمن بكتابه وبنبيه ويخالفه في بعض الحركات في العبادات لتسوِّل له نفسه تقطيع أخاه إرباً أرباً؟!، وهكذا توجهات مقيتة بُنيت على مالٍ سخيٍ وتوجهات عقيمة بالية اتخذت من الإعلام سلاحاً قوياً للوصول إلى مخادع الأصوليين ومن يتبنى فكرهم وبعض الشبيبة الذي يعانون فراغاً فكرياً وروحيًا.

وفي الجانب التربوي يلعب الإعلام التربوي دورا رائدا في توعية الناس وتثقيفهم بما يحقق لهم الوعي الآمن حول التجاذبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، علاوة على دوره في إبراز الوجه الحسن والبسيط لدين محمد عليه الصلاة والسلام، إضافة إلى دوره الرئيسي في قراءة الواقع التربوي والتعليمي ودمجه في عالم التكنولوجيا، إلا أنّه ومن الملاحظ في الوطن العربي أن هذا الدور شبه غائب أو معدوم، بل هناك قصور في استيعاب ماهية ومهام الإعلام التربوي الحقيقي، فجُلَّ المؤسسات التربوية بالوطن العربي تضع الدور المنوط بهذا العنصر الحيوي في متابعة وتحرير مستجدات الأعمال والأنشطة بالمحافظات التعليمية أو بالمؤسسة التربوية والأكاديمية فحسب، دون أن يكون حِراكها مبنيٌّ على أسسٍ علمية وتخصصية عبر قراءة الواقع التربوي لمختلف الشرائح التعليمية من الطلبة أو الكادر التدريسي أو الإداري من خلال الاستطلاعات العلمية المُحكَّمة والتي تفرز لنا مؤشرات مهمة حول تطوير المناهج وتعديلها، وحول المستقبل المهني لما يتعلمه الطلبة، وحول درجة الرضا الوظيفي التدريسي والإداري، وحول درجة الوعي السياسي والثقافي والاجتماعي للطلبة في الحلقة الثانية أو التعليم ما بعد الأساسي، وحول الإنتاج البحثي التربوي في الكثير من قطاعات التعليم المختلفة، ناهيك عن غياب دوره في الإنتاج الإعلامي من حيث تأسيس براعم إعلامية متخصصة في إجراء المقابلات واللقاءات المتخصصة، أو القدرة على التحليل والتفسير لتسارع الأحداث الجارية، أو خلق البحث العلمي الصغير، أو صناعة أقلام ماهرة في كتابة السيناريو القصصي والتاريخي والدرامي وغيرها الكثير، أضف إلى ذلك غياب دوره في جسِّ النبض المجتمعي للكثير من قضايا المجتمع المحيط بالبيئة المدرسية وربطها بالمُتغيرات المحيطة به.

إنّه من الضرورة بمكان أن تتبنَّى المؤسسات التربوية والأكاديمية برامج إعلامية فاعلة تجعلها رقماً مهماً في مكونات النسيج المجتمعي، وأن تكون اللبنة الأساسية لإخراج جيل متخصص ذو مراسٍ ماهرٍ في الطرح الإعلامي بمختلف عوالمه الكثيرة؛ ولتحقيق ذلك لابد من سلخ جلد المحاذير التي تلتحف بها بعض المؤسسات من باب (الاحتراز غير المُبرر) لتصنع لنا إعلاماً فاعلاً ومنتجًا يكتسي باحترام الجميع.

كُل عامٍ والجميعُ بألفِ خيرٍ

[email protected]