البلسم الشافي (الجزء الرابع)14

حمد بن عبد الله بن محمد الحوسني

أيّها الإخوة الأفاضل والأخوات الفضليات، ذكرنا في نهاية اللقاء (العاشر): (ثم بين المولى -عز وجل- أن الهداية إلى الصراط المستقيم والإضلال عنها واقعان تحت مشيئته -جلت قدرته-: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) سورة الأنعام: 39.

ونود زيادة التوضيح حول ذلك؛ لئلا يحدث إشكال لدى البعض حول فهم هذا الموضوع الذي انقسمت تجاهه مواقف علماء الأمة والمتعلق بفعل الإنسان ونوع العلاقة بينه وبين مشيئة الله - تعالى- وخلقه؛ فبين قائل: إن الإنسان هو من يخلق فعله بنفسه، وبين قائل في الطرف المقابل: إن الإنسان مجبر على فعله من الله -سبحانه وتعالى-؛ فهو كالريشة تحركها الرياح حيث اتجهت.

والقول الحقيق بالقبول والذي لا يجوز خلافه والذي دلت عليه الأدلة الشرعية أن مشيئة الله - سبحانه وتعالى - وحكمته وعدله اقتضت أن يكون الإنسان مكتسبا لأفعاله، ويملك حرية اختيارها؛ ولذلك يكون محاسبا عليها؛ إن خيرا كانت له الجنة ونعيمها، وإن شرا استحق النار وجحيمها - والعياذ بالله من النار وما يقرب إليها - وأيضًا فإنّ الله خالق لكل شيء، ومن ذلك أفعال الإنسان جميعها، وهو الذي أوجد في الإنسان القدرة على الاختيار والفعل والكسب، ولا يمكن أن يحدث في ملك الله شيء خارج عن مشيئته وخلقه، نعم يفرق بين الفعل الذي يختاره المرء ويحاسب عليه وبين الفعل الذي يضطر إليه ولا دخل له باختياره، ولكن كله واقع بمشيئة الله وخلقه؛ بدليل أنّ العبد قد يعزم في بعض الأحيان على فعل أمر ولكن لا يتمكن من القيام به؛ لأنّ الله خلق أسبابا تحول بينه وبين فعل ذلك.

وقد ذكر الله أنّه خالق كل شيء في سورة (الأنعام) بعد أن رد على من جعل له شركاء؛ يقول الله - جلت قدرته، وتقدست أسماؤه-: (وَجَعَلوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ. بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) سورة الأنعام: 100-102، كما ذكر ذلك في سورة الرعد: 16: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)، وقال الله -عز وجل- في سورة الزمر: 62-63: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)، وجاء في سورة غافر: 62-63: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)، وجاء في آخر سورة الحشر: 24: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

بل ذكر الله - تعالى- في القرآن الكريم أنّه خالق للإنسان ولعمله: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (سورة الصافات: 96)، ولكن - كما بيّنا سابقًا- فإنّ الله - تبارك وتعالى- قد أعطى الإنسان القدرة على الاختيار والكسب، وعليه أن يتحمل مسؤولية ذلك: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا. إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) سورة الكهف: 29-30.

* أمين الصندوق بالجمعيّة العمانية للعناية بالقرآن الكريم، والمشرف العام لمسابقة رتل وارتق للقرآن الكريم

تعليق عبر الفيس بوك