حاسة التمثيل عند الممثل

نظرة

آمنة الربيع

هناك مُمثلون ينجحون في اختيار الأدوار التي توقظ لديهم حاسّة التمثيل، ينطلقون من إحساس عميق فيهم أن وجودهم في العمل الفني هو اختبار لقدراتهم التمثيلية، وهذا ما يجعلهم يشعرون بالخوف والقلق على عكس الممثلين الذين يعلنون بعجالة عن فرحهم الداخلي لتأدية شخصيّة ما! وإعلان الشعور بالفرح ليس عيبا، ولكن يبدو غريبا نوعا ما. وعندي قاعدة أستند إليها حتى صارت بمثابة اعتقاد صارم هو أن الممثل الذي يسجّل عددا من النجاحات المتصلة في أعمال درامية قوية، ليس أمامه إلا الاعتراف بالنجاح الجامح والطاغي، أو بالفشل والسقوط الذريع.

كتبتُ السطور السابقة وفي ذهني عدد من الممثلات والممثلين، سأبدأ بالنجمة الصاعدة نيللي كريم، وسأنتهي في النظرة القادمة بالنجم المخضرم يحيى الفخراني، أما ما بينهما فيمكن الإشارة بعجالة إلى: خالد الصاوي، أحمد وفيق، إياد نصار، طارق لطفي، والممثلة غادة عبدالرازق.

ما الذي يبقى في ذاكرتنا من الممثل؟ ظله؟ حواراته؟ ملابسه ومكياجه؟ دموعه وانهياره وانكساره؟ أسنانه ونظراته وقوته وعنفوانه؟ خيلاؤه وزهوه؟ صخبه وعنفه؟ جديته وهزله؟ ابتسامته وضحكته وحزنه؟ سأطرح سؤالا شخصيا: ما الذي يشدني إلى نيللي كريم؟ هل لأنها نجحت في أن تُريني الحياة من نافذة مرتفعة؟ أم لأنها استطاعت أن تستقطع أجزاءً من روحها وتقمصها لتقذف بها إلى الشخصية التي تجسدها حاليا في مسلسل "سقوط" حر 2016م، وجسدتها من قبل في المسلسلات "بنت اسمها ذات" 2013م، و"سجن النساء" 2014م، و"تحت السيطرة" 2015م، وفيلم "واحد صفر" 2009م.

لقد لاحظت وأنا أتتبع الاستشهاد بالأمثلة السابقة أن نيللي كانت ناجحة في تأدية الشخصيات الفنية برؤية نابعة من قوة النص المكتوب ومعالجة درامية ذكية على يد كاتبة السيناريست مريم نعوم، وأن البعد الآخر لنجاح معادلة التمثيل الصعبة ملكت زمام قيادته المخرجة كاملة أبو ذكرى في جميع أعمال نيللي السابقة، إلا باستثناء وحيد هو مسلسل "سقوط حر" بتوقيع المخرج التونسي المدهش شوقي الماجري. ولكي أبقى في دائرة الممثل وحاسة تمثيله فأنا بالضرورة أفكر في طرح هذا السؤال: ما النص أو العمل الفني الذي يعيش في قلب المتفرج وفي دماغه ويظل يرتحل معه؟ وهي كما ترون أسئلة لا تخلو من الشخصية على نحو من الأنحاء.

العارفون بإعداد الممثل من النقاد والأكاديميين يعودون إلى معلمنا العريق ستانسلافسكي. طرح معلمنا في مقدمة كتابه "عمل الممثل مع نفسه" الصادر عام 1938، الأسس والقواعد العلمية للكيفية التي تساعد الممثل وتوجهه. وإذا لاحظنا عنوان الكتاب، فهو يرتكز على شغل الممثل أولا مع نفسه، ثم مع المخرج. وأهم المرتكزات لشغل الممثل بحسب ستانسلافسكي هي: "الدراسة، والمعايشة، والتجسيد".

وفي مسلسل "سقوط حر" يتعرَّف المتفرج بهدوء على مكونه النفسي؛ لأن حاسة التمثيل تتجه بالممثلة إلى إخراج ذلك الجزء الذي لا نراه من الحياة ومن العلاقات الاجتماعية. ولعل من أقرب النتائج التي خرجتُ بها من مشاهدة الحلقات السابقة أننا نعرف بعضنا بعضا ليس على وجه الحقيقة بل على وجه التقريب، وأن التمثيل المتقن فجَّر عندنا ضرورة أن نفهم بعضنا فهما كاملا، ولننتبه أن الفهم الكامل قد لا يحدث؛ لذا نحن في حاجة لمزيد من الدراما والفن. ولنعد لنتذكر واحدة من مقولات ستانسلافسكي المهمة لطلابه: "كن أنت نفسك في كل دور تؤديه، ولكن كن مختلفًا في كل مرة. فما دامت بيئتك مختلفة، وقصة حياتك مختلفة، فإن ذهنيتك هي الأخرى يجب أن تختلف، وكذلك سلوكك وإحساسك بالقيم". ولئن يعتقد معلمنا ذلك فإن الدراما في كل صيغها هدفها هي معرفة عمق الإنسان ومقدار ما بداخله من فن.

تعليق عبر الفيس بوك