من ستختار أرواح أجدادنا؟

زينب الغريبيَّة

عاش أجدادنا في زمن غير زمننا، وعاش آباؤنا في زمن وسط بيننا، وعشنا نحن في زمن بداية التغيرات، ويكبر أبناؤنا الآن ويتفاعلون في زمن يختلف عن الزمن الذي تربينا نحن فيه، كل زمن يطبع على أجياله سمات مختلفة تميزهم أو تجعلهم مختلفين عن أبناء العصور الأخرى، كل جيل يرى أنه هو الأفضل عن غيره، وكل جيل يحن لزمانه، ونحن كجيل نشعر بالقلق على من حولنا من بني جيلنا، وعلى من هم آتين بعدنا، ولكن تبقى هناك حقيقة غائبة، أن كل فرع من جيل تظل أرواح سابقيه ممن يحملون ميزات تلوح في الأفق حول أجيالها لتحط في أجساد أفراد من أجيال لاحقة ستحمل نفس سماتهم.

من هنا، يتبدَّد القلق الذي يرافقنا، فلو اعتقدنا أن أجدادنا صنعوا حضارات وقادوها، وأنهم أنجزوا وبنوا وعمّروا، ونحن الآن نشعر بالعجز فنرى البطالة والإتكالية في كثير من أوساط الشباب، لم يكن هذا المشهد موجود في جيل الأجداد سابقا ولا الآباء، لكن هل سيستمر هذا؟ هل ستتركنا أرواح أجدادنا ندمر فروعهم؟ هل لن تأتي الجينات -التي تنتقل بالدم من جيل لآخر وهي نفس الجينات لم يشوبها خلط- لتحدث صدى الأرواح السابقة في فروعها؟

حتى لو أثرت المدنية وحياة الاتكالية في جماعات من الشباب، نجد هناك في كل فرع من هم قادرون وحاملون اللواء، لا يخلو فرع من ملة أو جماعة بشرية تربطها رابطة دم أم نسب من مزيج، منهم المحتمل للمسؤولية الصانع للحياة، ومنهم الأشخاص الذين يحملون عكس الخصائص، يبدو أن الأمر يظهر وكأنه طبيعي فهذه هي الطبيعة البشرية التي جُبِل عليها الخلق؛ فمنهم الصالح ومنهم الطالح، إلا أن الحقيقة التي تكمُن وراء ذلك هي الأرواح الخيرة التي تجوب حول فروعها لتصنع الاستمرارية في الحياة تنتقل عبر الجينات المنسابة في عروق حامليها.

لذا؛ يظهر لدينا سمات يشترك فيها الحفيد مع جد لم يره، ويتفق كثير من كبار السن الذين عايشوا زمن الجد في تشابه السمات بينهما، ليس في السمات الشكلية الجسمانية فحسب، بل في التصرفات والسمات الشخصية من حكمة ونباهة وحزم وهيبة، في حين أن عددًا من إخوانه يندرجون في جملة ممن انجرفوا مع معطيات العصر، نماذج كثيرة أمامنا تمثل هذه الحال؛ لذا يشعرنا هذا بعدم القلق، فهناك أجيال قادمة ستحمل سمات أشخاص مضت، وستصنع بمعطيات هذا العصر أكثر مما صنع سابقوهم في عصور متواضعة في معطياتها.

قد لا تتفق معي نظريات كثيرة في التربية؛ فهي تعتمد على العالم المادي المحسوس الذي يحيط بالشخص، وما يتعرض له من مواقف وتعاملات وتوجيهات وما تعرضه عليه القدوات، ربما تؤثر هذه الأشياء بالطبع، لكن دائما نجد أنفسنا أمام تحديات في التربية والتنشئة من منطلق أن ليست هناك طريقة ناجحة واحدة من الممكن أن تعمم على جميع الأطفال؛ بسبب اختلاف تكويناتهم الشخصية واستعداداتهم، هنا عُدنا لبداية قولنا إنَّ الجينات المتناقلة في الدماء تحمل سمات الأوراح على هيئة الاستعداد الشخصي والتكوين الذاتي الذي يميز شخصية عن أخرى.

الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز، أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، جاء بعد ستة من الخلفاء الأمويين، عاشوا في زمن من البذخ والدعة اختلفت عمن سبقهم في العصر الراشدي، وتربى عمر بن عبدالعزيز في ذلك الوسط، كان من أكثر من يحب التأنق وحسن المظهر، وعندما أصبح خليفة للمسلمين، سكنت فيه تلك الروح التي حملها جده، ليحكم بنفس السمات، خالعا عنه ما تربّى عليه من ماديات وما تأثر به في البيئة المحيطة به من قدوات، حينها ظهر الاستعداد الشخصي بذرة العدل والورع التي تسري في الدم، انتقلت عبر أجيال لتستقر في شخص حمل بها نفس السمات.

حين يتغلب الشخص على معطيات عصره، ليحمل سمات أشخاص عاشوا في عصر سابق، لينعته الكثيرون بأنه "ليس من أبناء جيله" دلالة على أنه شخص مسؤول وحكيم وراجح العقل، فهذا تعبير يحمل في طياته أنه يحمل روح أحد أناس ممن عاشوا في زمن يختلف في معطياته المادية وقدواته عن العصر الذي يعيش فيه هذا الشخص.

... سيأتي يوم ونجد أنفسنا -رغم ما تعدنا به الحياة من تشاؤم اقتصادي- قادرين بما نحمله من سمات أجدادنا الذين تحدّوا الحياة في كل ظروفها، وقهروا الصحراء والجبال والبحار، وتغلبوا على كل الصعوبات المادية والطبيعية والبشرية، وصنعوا حضارات عظيمة، وشاركوا في إنتاج العلوم والحياة، سماتهم لا تزال تسري في الدماء تنتقل في الجينات من شخص لآخر، منها ما استقر فعلا في أشخاص نراهم بيننا، ومنها ما يبحث عمَّن تستقر فيه، وستسكن تلك الأواح بيننا صانعة المجد المنتظر رغم كل التحديات.

تعليق عبر الفيس بوك