الحِلم .. خُلق المجاهدين

النظر بن سليمان بن ناصر الخنجري

إمام وخطيب بجامع السلطان قابوس بنخل

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسَّلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد الهادي الأمين، وعلى آله وصحبه الغُر الميامين، وعلى من سار على أثرهم واستنَّ بسنتهم إلى يوم الدين، أما بعد: إخوتي وأخواتي القراء الأعزاء، أريد أن أحدثكم عن خلق رفيع، خلق لا يناله إلا المجاهدون، خلق لا يناله إلا الموفقون، صفة فيها مجاهدة للطبع، ومكابرة للنفس، ألا وهي صفة "الحِلم" بكسر الحاء وإسكان اللام، وكُلنا يعرف هذا الخلق وتعريفه، وكلنا نعرف ما فيه من مجاهدة للنفس، خاصة للأناس الذين جبلوا على الغضب، وسرعة الانفعال، ولذلك كان الأجر فيها عظيماً، والجزاء جزيلاً، فطوبى لمن حاز قصب السبق فيها، وقد امتدح الحق سبحانه وتعالى أنبياءه في كتابه العزيز بهذه الصفة الحميدة، فيقول في خليل الرحمن إيراهيم عليه السلام: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَهِيمَ لاِبِيهَ إِلاَّ عَن مَّوعِدَة وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَهِيمَ لاَواَّهٌ حَليمٌ 114﴾كما امتدحه في موضع آخر في معرض ذكر قصة قوم لوط عليه السَّلام بقوله (إنّ إبراهيم لحليم أواه مُنيب) ويقول في تبشير الله لإبراهيم بالولد (فبشرناه بغلام حليم) فكل هذه الآيات تدل دلالة واضحة، على عظم هذه الصفة النبيلة، التي اتِّصف بها الأنبياء، كما حفلت السيرة النبوية بقصص كثيرة تدل على حلم الرسول الأعظم محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم وصفحه، وما قصة الأعرابي الذي بال في المسجد فكاد الصحابة أن ينهروه ويعنفوا عليه، إلا أنّ النبي عليه السلام وهو الحليم الحكيم، أمرهم بالترفُّق عليه ونضح الماء على البول، ونصحه بلين وحكمة، إلا دليل على اتصاف الرسول عليه السلام بالصفح والحلم، وهذه قصة من حلم الرسول صلوات الله وسلامه عليه وسعة صدره، مع الأعرابي الذي جذبه من ردائه، فإليكموها: (سأل أعرابي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شيئاً من متاع الدنيا، فأغلظ الأعرابي القول للنبي (صلى الله عليه وسلم). وهمَّ بعض الصحابة أن يبطش بالأعرابي، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم نهى صاحبه وقام إلى بيته وزاد في الإحسان إلى الأعرابي حتى يبدل غلظته ليناً ولطفاً،وجفوته سماحة ودعة. ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الأعرابي: أرضيت؟ فقال الأعرابي: نعم رضيت فجزاك الله من أخ وعشيرة خيرًا. وقال النبي (صلى الله عليه وسلم) للأعرابي: إنّك قلت ما قلت، وفي نفس أصحابي عليك شيء، فأخرج إليهم، وقل أمامهم ـ ما تقول. وخرج الأعرابي راضيًا، فعرف هذا الرضا في وجهه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكنت نفوسهم. وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى ثمرة التربية العملية للنفوس البشرية، فيقول لهم: لو تركتكم وما كنتم تريدون به لدخل النَّار) فياله من موقف يُحير الألباب، ويعجب له ذوو العقول والأفهام، وكم من القصص الكثيرة التي حدثتنا عنها السيرة فيها من الدلالات الواضحة على حلم الرسول صلى الله عليه وسلم، فصدق العزيز الحكيم حين قال: (وإنك لعلى خلق عظيم)، فحريٌّ بالمسلم أن يتخلق بهذا الخلق ويجاهد نفسه أعظم الجهاد، ليُجنب نفسه الغضب، وليكون من الذين اتبعوا الرسول عليه الصلاة والسلام، خاصة في هذا الشهر الفضيل والذي يكون فيه المسلم رزينا هادئ الطباع، فإنه مأمور بالحلم وسعة الصدر.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك