شعلة مُبلَّلة بالدموع!

معاوية الرَّواحي

لم تعش، ولا تعيش الثقافة في بلادنا أجمل أيامها، وأسباب هذا ليست خافية على أحد، فبالنسبة للمثقفين والكتاب والأدباء -الطرف الذي يأخذ النصيب الأقل من اللوم- قام كثير منهم، بحصر الثقافة والعمل الثقافي في حراك التغيير والمناداة بالحقوق والدفاع عنها، ولا يُمكننا بأيِّ حال من الأحوال أن نقول إنَّ هذا ليس عملا نبيلا ساميا، ولا يمكننا أن نقول إنَّ الثقافة ليس من واجبها فعل ذلك، لا أختلف مع هذا هُنا، وإنما مع هذا التغيير الحديٍّ في تعريف العملية الثقافية والعمل الثقافي، الأدباء والتشكيليون مثلاً لا يشتغلون في هذا الحراك، لكن لا يُمكن نزع صفة المثقف عنهم، هذا مثال بسيط.

هذا التغيير في التعريف أسهم في تفاقم المشكلة، والمثقفون في كل مكانٍ في العالم ليسوا أساتذة في عيش الواقع، المثقفون كائنات حالمة شئنا أو أبينا؛ لذلك كان تعريفهم الجديد للثقافة حالما مثلهم، ليس من المستغرب أن تنشأ هذه الحالة "الدفاعية" الشرسة، قبل خمس سنوات أمسكت اليدُ الشعلة وإلى الآن الشعلة والحفاظ عليها هما محور تفكير العقول المثقفة في عُمان، تلك الشعلة التي يجب لا تنطفئ، مهما أمطرت السماء حزنا. وهذا حق لهم دون أدنى شك، كما يحق لي أن أصف وأنقد ما أرى، يحق لهم أيضا أن يؤمنوا بواقع جديد أجمل، ويحق لهم أن يكونوا حالمين، لا يمكن مصادرة الأفكار فما بالكم بمصادرة الأحلام!

ما فعله المثقفون ليس مُحزِنا بقدر ما تفعله وتمارسه الأطراف الأخرى، إلا أنهم ودون قصد ساهموا في توقف الأجيال الجديدة عن الانضمام للمبنى الثقافي ومن أهم أسباب ذلك هذا التعريف الحاد للثقافة، فإما أن يكون حراكا تغييريا أو فهي ثقافة "بلا فائدة" تحويل الثقافة إلى أداة أدى إلى خوف الجيل الجديد من دخول مبنى الثقافة العُماني، وبسب ذلك اتجه القاصون والشعراء إلى النت لإيجاد مكان يمارسون فيه "نشاطهم الأدبي" بعيدا عن جو الثقافة المشحون بالحزن والأسى والتهييج العاطفي لقضية مدفونة تحت التراب. ومهما كان الإنترنت "بديلاً" مُقنعا، إلا أنَّها ليست بديلا مقنعا، نعم الفردية قد تفعل في النت، ولكن العمل الثقافي يحتاج في كل الكون إلى مؤسسة تحمل اسمه وتجمع المنتمين إليه على توافقٍ وبناء.

الطرف الثاني وهو المجموع العام، وأختار وصف المجموع العام بدلا من كلمة "المجتمع"؛ لأنَّ المجموع العام يشمل الجَميع في المجتمع كان -كعادته- مع خيار المصلحة، الثقافة كانت في يوم من الأيام تقدَّم له الكلمات للأفكار التي تجول في رأسه، وترسم له المشاعر التي تدور في خلده، قام بذلك الشاعر والأديب والمدون والقاص والكاتب والإعلامي والأكاديمي والفنان التشكيلي ورسام الكاركتير. عبَّروا عن ما في خلده من ضيق وتوتر تجاه الوضع السابق، حتى انفجرت النفوس غضبا، حدث ما حدث، وإذا بالمجموع العام ينشغل بفتاة جميلة تنشر صورها، أو بقضية تغريدة لمسؤول حكومي أو بخبر جديد أو إشاعة جديدة، كلنا جزء من المجموع العام، وكلنا نفعل ذلك.

لذلك ولهذا الفارق بين الرغبة الثقافية ورغبة المجموع العام، أصبح المثقف العُماني يعيش في غربة مُحزنة، ولا يبدو أنه سيخرج منها قريبا، غربة جعلت الطرف الثالث يكيل له الضربات بلا توقف، فلا المثقف انتبه إلى أن الوضع الحالم زال وأن مطرقة الواقع سقطت على زجاج مدائن الأحلام، ولا المجموع العام مهتم بكاتب وراء كاتب يدخلون الغرف المصمتة.

... إن شعلة الثقافة مُبلَّلة بالدموع، وأمطار الواقع لن تكفي لكي تطفئها، ولكنَّ دمعة واحدة من مُؤمن بها تكفي لإطفائها. الوسط الثقافي الآن في أسوأ حالاته على الإطلاق، حالته الإنتاجية العامة تقترب من الصفر، ولولا الإنتاج الفردي من قبل الكتاب الذين يحترمون فرديتهم ويكتبون وينتجون وينشرون لقلنا أن الثقافة في عمان تعيش في حالة شلل تام، ولا تقل لي الفعاليات التي تلقى في وجوهنا هي [عمل ثقافي] هذا نوع من ذر الرماد على الجفون لا العيون.

لن يمكننا إلغاء الثقافة ودور الثقافة في عُمان، وفي كل مجتمع في العالم، الثقافة لها دورها الذي لا يمكن أن يلعبه غيرها، ولعبة العناد مزرعة خسارات لكل الأطراف، والخوف كل الخوف أن تشحن النفوس مجددا، وأن تشيع البغضاء في النفوس، بين الكاتب والكاتب، أو بين الكاتب والوطن، أو بين الوطن والكاتب، أو بين المجتمع والكاتب، أو بين الوطن والمجتمع، إن أي فعل يسبب البغضاء في هذا الوطن الجميل هي جريمة لا تغتفر، سواء كانت من الكاتب، أو المجتمع، أو المؤسسة الرسمية، عُمان للجميع، ولا تختزل أو تختصر، فالوطن باقٍ ونحن الراحلون، نعم، الوطن باقٍ، ونحن الراحلون، ويا ليت قومي يعلمون.

تعليق عبر الفيس بوك