ثقافة السلم الأهلي

عبيدلي العبيدلي

"انطلاقاً من أهمية الخطاب الديني ودوره في نشر ثقافة السلم الأهلي وتقريب الرؤى بين أطياف المجتمع، فإنَّ المعهدَ يحرص على تنظيم فعاليات تنهض بهذا الدور السامي مستفيدة من الأجواء الروحانية لشهر رمضان المبارك".. قائل هذا النص هو المدير التنفيذي لمعهد البحرين للتنمية السياسية ياسر العلوي عند إعلانه عن إحدى فعاليات الرمضانية قبل ما يقارب العامين.

تُذكِّرنا عودة الشهر الفضيل بمثل هذا النص، الذي بات يحاصر بشدة من يتابع الأوضاع العربية هذه الأيام؛ حيث يضرب العرب عرض الحائط حتى أعرافهم القبلية والدينية التي تعتبر رمضان أحد الأشهر الحرم الذي يتوقف فيه الجميع عن الاقتتال، وإشهار السيوف في وجه بعضهم البعض.

فحُرمة هذا الشهر الفضيل لم تُوقف الانفجارات في اليمن، ولا المعارك في شمال العراق، ولا القصف العشوائي غير الإنساني للمواطنين الأبرياء في المدن السورية. والسؤال الطبيعي هو: لماذا يُصر العرب على رفض حل مشكلاتهم بطرق إنسانية حضارية، وفق معايير ثقافة السلم الأهلي، بعيدا عن صهيل الجياد وصليل السيوف؟

فالخمس السنوات الماضية كانت امتحانا مباشرا كشف فشل العرب في التحول من قبائل متناحرة، إلى مواطنين متحضرين، ومهما بلغت قساوة هذا الوصف فهو لا يصل إلى قسوة ما يعاني منه المواطن العربي في البلدان الملتهبة من ظروف حياة شاقة لا يقف وراءها، وبشكل مباشر سوى العرب أنفسهم، بغض النظر عن تلك التبريرات التي يسوقها البعض منهم حول بصمات التدخل الخارجي، الذي لا يستطيع أحد إنكاره، لكنه ليس الجهة الأكثر تأثيرا فيما تشهده المنطقة العربية من مظاهر عنف تبلغ مستوى العبثية.

هذا يقود المتابع لحركة الأوضاع العربية نحو تساؤل في غاية الأهمية؛ وهو: هل نمتلك نحن العرب اليوم ما يعرف بثقافة السلم الأهلي؟ وإذا كانت الإجابة بالنفي، فكيف لنا أن نكتسب هذه الثقافة، أما إن كانت الإجابة موجبة، فما ياترى ما سبب فشل نقل هذه الثقافة من مواقعها النظرية إلى أرض الواقع؟

قبل الإجابة عن ذلك التساؤل بشقيه الإيجابي والسلبي، لا بد من الإشارة إلى ضرورة التمييز بين مفهومين: السلم الأهلي من جانب، وثقافة السلم الأهلي من جانب آخر. فبينما يحصر الأول نفسه في ظاهرة مموهة تقوم على استتباب الأمن، وليس السلم الأهلي في مجتمع ما، تحرص الثانية على إشاعة السلام في أذهان المواطنين، وغرسه عميقا في سلوكهم وعلاقاتهم اليومية المشتركة.

لذا فليس استتباب الأمن في دولة ما دليلا حقيقيا على انتشار ثقافة السلم الأهلي في ضفوف مواطنيها؛ وذلك للأسباب التالية:

أول تلك الأسباب هو أنَّ استتباب الأمن يعود إلى القوانين الجائرة التي تنظم العلاقات بين الدولة والمواطن؛ الأمر الذي زرع الرعب في نفوس المواطنين، وحولهم، دون استثناء، إلى مجرد كائنات مدجنة تمارس السلم الأهلي دون ان تكون مشبعة بقيمه ومفاهيمه. وهو أمر يشير له الباحث رمضان الغزا، حين يقول: "السلم الأهلي الاجتماعي له مقومات وأركان بدونه ينعدم السلم الاجتماعي ويضعف؛ وذلك حتى لو بدت أمور المجتمع هادئة مستقرة وغير مضطربة نتيجة الأسوار العالية التي تنبت في غفلتنا ما تلبث ان تنكشف مؤديه إلى جر المجتمع إلى حافة الهاوية".

ثاني تلك الأسباب: عدم وعي المواطنين في ذلك المجتمع، ومن ثم فهم يجنحون للسلك كردود فعل تلقائية لا تستند إلى ذلك العمق الذي تطوره ثقافة السلم الأهلي، التي ترفض أن يكون السلم وسيلة لدرء اعتداء الغير أو خشية من غضبته، أو تحاشيا لإثارة نوازع الاعتداء لديه.

وثالثها: هو خوف المجتمع، نتيجة لتدني درجة تطوره السياسي والاجتماعي، من قوى غيبية يخشاها المواطن، ويتحاشى تدخلها فيما لو هو أخل ببعض قيم السلم التي تسود بعض قطاعات المجتمع، ومن ثم فهو يركن للسلم، دون أن يكون مقيدا نفسه بوعي وادراد، بسلوكيات ثقافة السلم الأهلي.

ومقابل ذلك، تفرض ثقافة السلم الأهلي الحقيقية مستوى مختلفا من الفهم والسلوك، يلخصه مرة أخرى العلوي حين يقول في سياق إشارته لتلك الفعالية، مُركِّزا على علاقة الخطاب الديني بثقافة السلم الأهلي "أنَّ الخطاب الديني المستنير والداعي للاعتدال والوسطية وقبول الآخر والتسامح ونبذ العنف وترسيخ قيم المواطنة...وغيرها يعمل جنباً إلى جنب مسيرة الديمقراطية؛ مما يكون له الأثر الطيب في شرح مفاهيم الممارسة السياسية الصحيحة والحقيقية والتي تُسهم في صنع القرار السياسي، كما أن الدور المناط بالخطاب الديني والذي يسعى لتحقيق روافد عدة للسلم الأهلي تنعكس على الأصعدة المختلفة، والتي بدورها تعمل على النهوض بالبلاد".

وفي نطاق هذه الرؤية المتكاملة، يُمكن التأكيد -كما يقول الكاتب عزت دراغمة- على "أن أولى أولويات ترسيخ مفهوم وثقافة السلم الأهلي والمجتمعي تستدعي أن يكون انتماء جميع أبناء الوطن الواحد لوطنهم قبل أية انتماءات أخرى، سواء أكانت انتماءات عقائدية أو حزبية وفصائلية، تماما كما يستوجب أن تكون أجندة الوطن على رأس وفي مقدمة الأجندات الأخرى وتسمو عليها بكل المعايير، عندها فقط القول ان ثقافة السلم الأهلي والمجتمعي تفرض نفسها وتسري بين جميع أبناء المجتمع حتى لو لم تكن بنود ونصوص هذه الثقافة منصوصا عليها وموثقة كقانون وعرف اجتماعي".

وفي السياق ذاته، وفي نطاق تحديد دور الدولة ومسؤوليتها يؤكد الكاتب فؤاد الصلاحي "أنَّ تحقيق السلم الأهلي والتعايُش يكون في إطار دولة بمظاهرها المدنيّة التي تتسع فيها فضاءات الحرّيّة واحترام حقوق الإنسان وبروز فاعلية المجتمع المدني كمؤسسات تنتج حياة الأفراد ضمن نسق ثقافي وسياسي يعزز من المدنيّة ومنظومتها الحقوقية والمؤسسية. ومفهوما التعايُش والسلم الأهلي من أهم مظاهر الثّقافة المدنيّة، وأهم مظاهر الحياة الحضرية".

ولكي نتجاوز إخفاقاتنا في اكتساب ثقافة السلم الأهلي علينا التخلص من الأسباب التي تحول دون الاستحواذ عليها، وتعزيز تلك التي ترسخها.

تعليق عبر الفيس بوك