دبلوماسيَّة الحكمة

 

حاتم الطائي

"الحكمة" التي تحدَّث عنها مَعَالى يُوسف بن علوي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية، مُؤخًرا؛ باعتبارها سَمتًا أصيلاً للسياسة الخارجية العُمانية؛ وتأكيده على هندسةِ حركةِ نموِّها وتطورِها من قِبَل مولانا حضرة صاحب الجلالة، ليُعدُّ في قاموس الدبلوماسية بمثابة فلسفةٍ عميقةٍ ترتسمُ ملامحُها في عالم يتشظَّى بفعل جَمْرِ الأحداث التي تشتعلُ الفينة بعد الأخرى، سواءً في منطقتنا وما جاورها، أو فيما يُقابلها من بقاع تتضاد معها في الجغرافيا. ولعلَّ اهتمامًا دوليًّا بمسارات السياسة العُمانية، وفعلها الرشيد في التعاطي مع مُختلف القضايا الدولية ليُمثل تعزيزاً لمكانة عُمان يوماً بعد آخر، ويُؤصل لمصداقيتها وتعمُّق موثوقيتها مع كلِّ تحركٍ يستهدفُ إحلال السلام، وإطفاء نيران النزاعات والحروب؛ استرشادًا وتأسيسا على توجيهات سامية بتدعيم أركان الأمن والسِّلم الدوليين، ونزع فتيل التوترات حتى يسود السلام العالم، وتنعم شعوبه بالأمان والاطمئنان.

وتتمسَّك السَّلطنة دومًا بمبادئها وحيادها رغم التطوُّرات الدِّرامية -إقليميًّا وعربيًّا ودوليًّا- مُنتهجة نهج الاتزانَ والواقعيَّة، وآخذة بعَيْن اعتبارها المعاهدات والمواثيق والأعراف الدولية؛ وهو ما كلَّل مساعيها بالنجاح في حلحلة عددٍ من الملفات المُعقدة على مدى عقود مَضَتْ؛ وأسهم في النَّأي بها عن مهاترات سياسية وصراعات وتكتلات قد تؤثر سلباً على عملية النهوض والبناء والتطوير.. فاحتفظتْ -بذلك- بعلاقاتٍ طيبةٍ مع الدول الأشقاء والأصدقاء والجوار.

وقد تجسَّد ذلك -بجلاء شديد- في مَوْقف السلطنة -على سبيل المثال- من زيارة الرئيس المصري الأسبق أنور السادات للقدس، وتوقيعه اتفاقية كامب ديفيد الشهيرة، وما نجم عنها من فُرقة سياسية بين العرب؛ باعتبارهم ذلك "خطوةً على طريق الخيانة" لقضية العرب الأولى "فلسطين"، وعلى إثر ذلك تم نقل جامعة الدول العربية من مقرها فى القاهرة إلى العاصمة التونسية تونس، وعُلِّقت عضوية مصر بها، وتم سحب جميع الأرصدة العربية من بنكها المركزي آنذاك. لتطل في ذينك الوقت دبلوماسية عُمان "رأس الحكمة"، والتي آثرت أن تظل محورَ تواصل بين الفرقاء، إلى أن التئمت اللُّحمة مرة أخرى.

ومع انطلاق شرارة الثورة الإيرانية في العام 1979م، انبرتْ عُمان بلعب دور شبيه؛ إذ أوفدتْ وفدًا للقاء الخميني؛ ليفتح صفحة جديدة من العلاقات الثنائية؛ مثَّلت خطوة عبقرية واستباقية لحكمة سياسيةٍ تجلَّت في وقت مفصلي من تاريخنا المعاصر، استُثمرت فيما بعد استثمارًا سياسيًّا وإستراتيجيًّا عظيمًا، كلَّل مساعيها الجادة في العام 2015 باتفاق تاريخي بين الجمهورية الإسلامية والغرب -ممثلا في مجموعة (5+1)- جنَّب المنطقة اضطرابات لو استمرَّت لما كان بالإمكان أن تُحمد عقباها.

وفي سياقٍ كهذا، يستعصِي على ذاكرة التاريخ نسيان جهود السلطنة في نزع فتيل الأزمة العراقية-الإيرانية، من خلال تقريب وجهات النظر وتجسير الفجوة بينهم في زمن قياسي؛ آلَ إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار تحت رعايةٍ أممية في العام 1988م. وبعدها بعامين، تجلَّت عبقرية عُمان مرة أخرى على وقع كارثة الغزو العراقي للكويت؛ إذ تواجدتْ وحدات الجيش السلطاني في منطقة حفر الباطن، ضمن وحدات "درع الجزيرة"، وأبقتْ الدبلوماسية أبوابها الأمامية والخلفية مُشرَعة لجميع الأطراف؛ في مسعى وَضَع السلطنة مَوْضَع احترام وتقدير؛ كنظام راسخ وغير هوائي أو مُتقلب المزاج والأفعال.

... إنَّ متوالية النجاحات العُمانية في إطفاء نيران التوتر، سواءً وقت احتلال أفغانستان عام 2001م، والعراق عام 2003م، ومحاولاتها وقف نزيف "الربيع العربي" بعد جنوحه نحو العنف الأعمى وتمزيق الأوطان، ورفضها منح مقعد سوريا للمعارضة، واستضافتها مباحثات التوافق وإنهاء الخلاف حول صياغة دستور ليبي يضمن لهم إنهاءً لكارثة إنسانية تحوم "غرابيب الموت" بها فوق رؤوسهم، لتُعتبر رصيدا إيجابيًّا يُسهم في خلق مفهوم موحَّد ومعاصر للتضامن والعمل الدولي المشترك.

وما هذه التحرُّكات والمساعي بمُجملها، سوى تأطير لنهج عُماني أصيل تأسس على ثوابت نهضوية ومرتكزات سياسية، استندت -ولا تزال- على نهج السَّلام والوفاق، مُستقيةً توجهاتها من الرؤى الحكيمة لمولانا حضرة صاحب الجلالة، والتي تضع ضمن أولويَّاتها تعزيز الاستقرار والسلم العالمييْن.