قِبلة الجمال

أسماء القطيبي

"أنا وأنتَ ننامُ داخل حقيبة

ثم نمدُّ أيدينا إلى ندف الثلج خارجاً..

كم يقشعر قلبانا للفكرة"!!

*****

هذا المقطع القصير جزءٌ من نص باذخ نشرته الشاعرة هنادي السهوي لامس روحي كثيرا، ولشدة ما أحببته فقد ظللت أردده بيني وبين نفسي طوال يوم كامل، أتأمل تارة في لغته، وفي التصور اللطيف الذي يحويه تارة أخرى، وفي تلك الليلة رأيت فيما يرى النائم أن ثلوجا تتساقط على مدينتي رغم شمس الصيف الملتهبة، وشاهدت أيدي الناس تمتد إلى السماء لإستقبال كرات الثلج المتساقطة في مشهد بطيء الإيقاع، أقرب ما يكون لنهاية فيلم سينمائي. وحين استيقظت كان يغمرني شعور بالامتنان، امتنان لهنادي التي "اقشعر قلبي" لقصيدتها، وللكُتاب الذين جعلوني أجوب بلدانا لم أزرها قط، للوحات التي أشعر بالغيرة من رساميها، وللصديق الذي يأتي دائما محملا بالموسيقى ويقول: "هاكم ما ينعش الروح". ذلك الصباح كنت أشعر بعميق الامتنان لكل الشعراء والكتاب والفنانين. وبالطبع لا يمكنني فعل ذلك دون أن أكون شاكرة لعيشي في زمن الخيارات الكثيرة، المنوعة والمتاحة دون حج ومسعى.

هل كان الفن أكثر جمالا حين كان الحصول عليه يتطلب سنوات من الانتظار؟ انتظار وصول الغجر ليعزفوا بآلاتهم الغريبة.. وانتظار الكتب التي حصل عليها الرحالة لقراءتها طوال عام كامل؟ هل كان الفن أكثر قيمة حين حرمه رجال الدين فأصبح يهرب من يدٍ ليد كالممنوعات؟ هل كان يمكن التمييز بين ما هو جميل وما هو أكثر جمالا في ظل الخيارات القليلة التي تتشربها الروح المتعطشة؟ كنت أتساءل عن كل ذلك بانتظار جواب ربما احصل على اجابته في احد المصادر ذات يوم.

... إنَّ الفن قد لا يستطيع أن يؤثر في العالم من حولنا، أن يوقف حربا أو يمنع مجاعة، ولكنه قادر على إحداث تغيير كبير في ذات كل واحد منا. إنه قادر وببراعة أن يغير عوالمنا الخاصة، أن يمنحنا العافية ودوافع العيش، رغم كل ما يحيط بنا من بشاعة. فالفن غاية في ذاته لا وسيلة، ومتى ما كففنا عن تحديد أهداف له سيصبح أكثر تأثيرا وجمالا. يقول الشاعر جويتيه -وهو من أبرز المناصرين لنظرية الفن للفن- في مقدمة ديوانه الشعري: "إن كان ثمة هدف يحاول هذا الكتاب تحقيقه فهو فقط يحاول أن يكون جميلا"، ورغم أن العبارة تبدو شاعرية إلا أن واحدا مثل جويتيه لا يقصد بالطبع أن على الفن أن يكرس نفسه لتمجيد الحب والسعادة، ويتغافل عن المعاناة والآلام والأحزان، بالطبع هو لا يقصد ذلك، وإنما يكون الفن جميلا حين يتحرر من القيود ما امكن، فينطلق في مواضيعه، ويسترسل في طرحها دونما خوف أو توجس، كما أنها لا تشترط المنطقية ولا تسعى لموازنة الأمور لتوصل رسالة متعمدة، فإذا ما أصبح الفن حرًّا وتخلص من قيوده أو أوشك، اقترب أكثر من الإنسان، واستطاع إحداث تأثيره على الناس مهما تباينت أجناسهم.

إنَّ ما يسعى إليه الفن هو نشر الجمال، وإحداث الدهشة التي تجعلك مفصولا عما حولك، فتحس نفسك مغمورا بما تقرأ أو تشاهد أو تسمع، أو هو اكتشاف عجزك عن التحليق رغم الخفة التي تشعر بها. وتحميل الفن ما لا يحتمل من كثرة التأويلات والتحليلات يفسده، ويفسد الفرحة الطفولية التي تستيقظ فينا كل ما صادفنا. ولعل عذر أهل الاختصاص من النقد والتحميص هو الرقي بالفن للأفضل، أما المتذوق فما عليه إلا أن يستسلم لتداخلات الشعور التي تنتابه، معتقدا بتلك العبارة التي تقول: "الفن ليس كل ما نفهمه بل كل ما يؤثر فينا"، ومتى ما أثر فينا فسيُحدث -شئنا أم أبينا- تغييرا نحو الأفضل.

Asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك