"مقنيات وطن وطفولة".. سيرة ذاتية تتناول ملامح من تاريخ إحدى بلدات عبري

قراءة في سيرة عادل الكلباني

جوخة بنت علي الشمَّاخية *

"مقنيات" كانت البداية والنهاية في سيرة عادل الكلباني التي عنونها بـ"مقنيات وطن وطفولة" سيرة ذاتية واقعية سردية يحيكها عادل عن نفسه بكل صدق وشفافية، بدءا من مرحلة الطفولة ومرورا بمرحلة الصبا ومن ثم الشباب، أحداث شكّلت منعطفا مهما في تكوين شخصيته (كانت مقنيات تصطبر على الجراح التي انسكبت في نواحيها، وعلى تلك الدروب الغابرة والمتضوّعة بحنين يشبه الحزن) هذه العبارة كتبها عادل في مقدمة سيرته التي مزج فيها بينه وبين المكان، فحزن المكان وجراحه هو نفسه حزن عادل وجراحه، حنين انغرس فيه ونجح في غرسه في نفس القارئ، بالرغم من أنه لم يفارق مقنيات لكننا نشم رائحة الحنين تتسلل بين جنبات كتابه، إنها الذكريات التي تجدد الألم والجرح والتي كان من أسبابها اليتم المبكّر، ومعاناته مع مرض الكساح الذي أصيب به وهو في عمر السنتين، مما خلّف لديه إعاقة دائمة في قدمه اليسرى، ولايزال يعاني منها حتى اليوم، لكنه لم يسمح لهذه الإعاقة أن تجعل منه شخصا ضعيفا، استطاع أن يتغلب ويتمرّد عليها منذ طفولته الأولى، فلم تمنعه من اللعب مع أقرانه وممارسة شيطنته الطفوليّة.

فكرة الحنين فكرة تتجسَّد لدى معظم شعراء وكتاب الأدب العربي والعالمي، كثير من المبدعين والذين أثروا فينا انطلقوا من فكرة الحنين، وكأن الألم غالبا ما يقف وراء الإبداع، حتى شخص خشن مثل أوديسيوس في ملحمة (الأوديسة) على الرغم من شراسته وقسوته، إلا أنه كان مملوء بالحنين. الجميل في سيرة عادل أنها لم تكن ذاكرة لسرد أحداث حياة الكاتب فحسب، وإنما كانت أيضا ذاكرة مكان عكست لنا بعض ملامح تاريخ بلدة مقنيات التي هي جزء من ولاية عبري، هذه البلدة التي شهدت مكانة تاريخية في فترة عهد دولة النباهنة، حيث اتّخذوها عاصمة لهم في فترة من فترات حكمهم، مقنيات كانت بمثابة خشبة مسرح لتلك الأحداث، فالذي لا يعرف مقنيات حقيقة سيشعر حين يقرأ الكتاب وكأنه عاش ماضي هذا المجتمع. يتنقل بنا عادل في بيئة ريفية تتميز ببساطتها وتلقائيتها، فتارة يلفحنا صيف حار، وتارة أخرى يقرصنا برد قارس، ومن خلال ذلك السرد نقف على بعض تفاصيل مجتمع مقنيات بملامحه الاجتماعية السائدة وعاداته وتقاليده، وهي لا تكاد تختلف كثيرا عمّا كان سائدا في مناطق السلطنة جميعها آنذاك، فأثناء التجوال بين صفحات الكتاب تصادفنا مدرسة القرآن والتي كان البعض يسميها بالكتاتيب، ومغسل الموتى، ويوم العيد والمراسم الخاصة به، وبعض الفنون الشعبية مثل فن الرزحة وفن المزيونة الذي تشتهر بها هذه البلدة، وعادة رعي الغنم، والأفلاج وما يتبعها من مناوبة السقي، ومشهد سقوط المطر، وما يخالطها من أصوات التهليل والتكبير، والأغاني التي يرددها الأطفال فرحا بهطل السماء، وقصّ الحكايا (التخاليق) من قبل الجدّة، ومراسم استقبال شهر رمضان، حينها تسمع دوي أصوات الرصاص الذي يُطلق ابتهاجا بمقدمه، ورقاط الخلال وما يحدث خلال هذه العملية من هرج ومرج بين الأطفال، وللمساء خصوصية خاصة لدى الأسر حين يعود الكل إلى البيت، ويتم تناول العشاء وما يصاحبه من جلسات السمر، وخلال كل هذه المشاهد تحضر قصص عادل ومشاكساته فتضطر أن تبتسم لا إراديا منها. جدة عادل لأبيه هي الشخصية الأساسية في حياته، فقد احتضنته بعد وفاة أبيه، يليها عمه سليمان الذي عاش معه بعد وفاة والده، ومن ثم بعض الشخصيات المكمّلة التي احاطت بالكاتب كعبّود الرجل الشايب الذي كان يعيش في بيت عمه، وكما نعلم بأن دور الأجداد دور قديم وسط الأسرة العمانية الكبيرة، ولاتزال هذه المكانة محفوظة لدى معظم الأسر، وتعلّق غريب يحدث بين الأجداد والأحفاد وبالذات الجدة، وفقدها يؤثر كثيرا عليهم، وهذا ما حدث لعادل الذي فقد جدته وهو في عمر الثانية عشرة من عمره، كانت بالنسبة له الفقد الأول في حياته، إذ رحل والده وهو لم يكن يفقه معنى الوداع. حين نمضي قدما في قراءة هذه السيرة سنخرج بقواميس متنوعة، أولها وأبرزها هو القاموس اللغوي الذي وظّفه الكاتب في سرد قصته، فلغة السيرة بصفة عامة هي اللغة العربية الفصيحة مع مزج بالعاميّة أحيانا، ففي السرد استطاع أن ينتقي ألفاظ اللغة الفصيحة، ويوظّفها بصورتها المباشرة والمجازية، فيكثر لديه البيان لاسيما التشبيهات والاستعارات، أما العامية فوظّفها في الحوارات بينه وبين جدته وعمه، وبين بعض الشخصيات البسيطة التي كان لها دور هامشي في حياته، وكأنه أراد أن يُنطق كل شخصية وفقا لما يتناسب مع تكوينها. والجميل في عامية ولاية عبري أن المكون الأساسي لها فصيح في الغالب، مع بعض القلب أو الإبدال الذي قد يلحق بعض ألفاظها، إضافة إلى بعض الكلمات الدخيلة من لغات أخرى أو بعض الكلمات المستحدثة التي دخلت إليها حديثا، شأنها في ذلك شأن عاميات عمان والخليج العربي بوجه عام. كذلك نخرج بقاموس لمسميات لأهم الألعاب الشعبية التي كان يمارسها أطفال مقنيات كالمديسّوه والتولة، والصّقيفة، والمراجيح، والحواليس، والتّبة، واللعب بالإطارات (التواير)، ولعبة الكيرم، وامتطاء الدراجة الهوائية (السيكل)، إضافة إلى لعبة السيّارة التي كان يصنعها الأطفال من بعض بقايا الأشياء، وكرة القدم التي كانت تستهوي الكاتب كثيرا، وقد أفرد لبعضها وصفا وافيا في صفحات قائمة بذاتها. وخلال تجوالنا في مزارع مقنيات نخرج بقاموس خاص بأشهر الأشجار التي كانت تزرع فيها، وأبرزها أشجار النخيل، والسدر (النبق) التي ذكرها الكاتب في أكثر من موضع، والياس، والموز بأنواعه (البحر والفرض والنغال)، والليمون، ويطول حديثه عن النخلة التي ذكر معظم استخدامات المجتمع لها آنذاك، ومن خلال ذلك يذكر أسماء مختلف أجزائها حسب مسمياتها العامية، والتي لا شك أن بعضها أصوله فصيحة، فلا يخفى على أحد الأهمية التي تشكلها النخلة في حياة العماني، ومن أنواع الأشجار أيضا المانجو(الأمبا)، والبيذام، والسفرجل، والجوافة، والفرصاد، والعنب، والفيفاي، والبالنج، والنارنج، والصومر، والريحان، والحبق، والخضروات بأنواعها. ولعوالم الحيوانات والحشرات والطيورالتي عرفها مجتمع مقنيات وتآلف معها أيضا كان لها نصيب من الذكر كالغنم، والبقر، والثعلب (العوس)، والقطط، واليعاسيب، والصدّ، والضفادع والدبابير (الدبيان) والصيفيرو، والسقاطين، والأفعى، والغول، والجعاريف، والفشاخين والشمبعانة، والدويّبة، والبسّ، والصراصير، والصرّوخ، ومعظم الحشرات الصغيرة ما كانت تسلم من ضرب عادل ورفاقه إما بحجر أو بالفرك بالأصابع أو الأحذية. ويظهر الكاتب أيضا عبر زوايا الأحداث احترامه الكبير للمرأة الريفية، ودورها الذي لا ينكره أحد، مقدّرا لها الأعمال التي كانت تقوم بها منذ الصباح الباكر، كالاحتطاب، وجلب المياه من الوادي لمسافات بعيدة، ومخض حليب البقر، وإعداد الخبز، وحين يتكلم عن المرأة تكون صورة جدته حاضرة بكل تفاصيلها. وعبر ثنايا سيرة عادل ندخل إلى عالم الخرافات والمعتقدات، فنتلمس بعض ما كان شائعا منها ولايزال قليل من الناس يمارسونها، كالتداوي بمختلف أنواع البخور وبالذات اللبان، فيما يسمى بـ (المغبار) ؛ للتخلص من بعض الأمراض، والتقرب إلى الجن لإبعاد المرض عن طريق القرابين المتمثلة في ذبح الأغنام والدجاج الذي يُسمى بـ (الخلوع). أيضا الخرافة التي كانت متعارف عليها حول ظاهرة خسوف القمر، والتي تنصّ على أن هناك أفعى تلدغ القمر، فيتحول لونه إلى اللون الأحمر، ولا يزول ذلك إلا بالدعاء والابتهال والأذان وقراءة القرآن، حتى يُشفى القمر ويعود إلى طبيعته، كذلك عملية (الترصيص) التي كانت تُقام للطفل الذي يُشك بأنه مصاب بعين أو حسد، وأيضا (الهبايب) وهو اعتقاد بأن بعض الناس يصيبهم لبس من الجن وحين يريدون استحضارهم يشعلون اللبان، فيقوم صاحب اللبس ببعض الحركات الغريبة، يشبهها الكاتب بحركات الباليه حاليا، هذه الخرافات نفسها التي تعالج بها الشايب عبّود حين أصيب بورم في رجله اليمنى ورفض الذهاب إلى المستشفى في البداية، وحين زاد عليه وجعه حُمِلَ إلى مستشفى تنعم، وكان السرطان قد تفشّى في جسده فأودى بحياته. وحين وصل عادل إلى سن المدرسة يصطحبنا في مشواره التعليمي،ليعطينا لمحة عن التعليم آنذاك فيدخل بنا إلى مدرسة فلاح بن محسن التي هي من أقدم المدارس في بلدة مقنيات، واسمها مرتبط بتاريخ هذه البلدة - سميت بهذا الاسم نسبة إلى أشهر ملوك بني نبهان الذي سكن مقنيات وبنى فيها حصن الأسود - فيبدأ يقدم وصفا عن انطلاقته إلى المدرسة وحقيبته والسيارة البيكاب التي تقلّه إلى المدرسة، والأماكن التي كانت تمر فيها أثناء الذهاب والإياب، والمشاغبات التي كان يقوم بها الطلاب وشيطنة عادل ومشاكساته التي لا تنتهي، وهناك وصف لمدير المدرسة وبعض المعلمين، وبعد ذلك يعرّج على ذكر مدرسة عزان بن قيس، التي انتقل إليها لدراسة المرحلة الثانوية، وهذه المدرسة تقع في ولاية البريمي، حيث أن التعليم الثانوي لم يكن منتشرا في جميع الولايات، فيضطر الطلاب إلى الانتقال والعيش فيما يسمى بالسكن الداخلي الملحق بالمدرسة، ولعادل أيضا في هذه المدرسة وفي السكن مشاغبات أخرى مع الزملاء والمعلمين والسائقين، وخلال بقائه في البريمي لأول مرة يعرف السينما، حيث كانت هناك سينما قريبة من مدينة العين الإماراتية، كان الطلاب يترددون عليها أحيانا. وينتهي بنا المطاف مع سيرة عادل في مستشفى خولة، حيث ذهب إليه لإجراء عملية جراحية لرجله وبعد الفحوصات والأشعات، عرف عادل من الطبيب بأن نسبة نجاح العملية بنسبة 70% وأن العرج سيظل مرافقه ولكنه سيخف قليلا، استبشر عادل خيراً، وكانت الخطوة الأولى للعلاج تبدأ بعمل جبس للرجل كاملة، وأثناء وجوده في المستشفى التقى بإحدى نساء مقنيات كانت تحمل في حضنها طفلة عمرها سنتان، فأخبرته بأنها جاءت تراجع بابنتها التي قد أجريت لها عمليتان لإصلاح رجلها المعوجّة، لكنهم لم ينجحوا في إعادتها لحالتها الطبيعية، فقال في نفسه هذه لاتزال طفلة ولم ينجحوا في علاجها، فكيف سيكون حالي وأنا في العشرين من العمر ؟! أخذ يصرخ صراخا هستيريا طالبا من الطبيب إزالة الجبس، حاول الطبيب أن يشرح له ويقنعه بالعدول عن قراره، ولكن هيهات أن يحدث ذلك مع عادل فاضطر الطبيب لإحضار المنشار الكهربائي لإزالة الجبس وأثناء ذلك قال له عادل: "إذا غلطت وقطعت رجلي أردّه في رقبتك ذا المنشار"، وظل الطبيب مواصلا لمهمته ملوحا برأسه وهو يبتسم.

* محاضر أول بالكلية التقنية بعبري

تعليق عبر الفيس بوك