السلطنة والصين.. الممكن في عالم متغيِّر

د.عبدالله باحجاج

الصين تتحول في عالم متغير، والتغييرات دراماتيكية بصورة مذهلة، ستحطم كل ما هو متعارف، لأننا في صيرورة زمنية جديدة، أسقطت نظرية نهاية العالم التي تعتقد واشنطن من خلالها أنها قد أصبحت تسيطر على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وقد أحسنت بلادنا صنعا عندما استغلت المرحلة الانتقالية التأسيسية للعالم الجديد، بإقامة شراكة اقتصادية عميقة مع القوة العالمية الصاعدة -الصين- فمن يُبادر اليوم في فهم المتغيرات والتحولات الإقليمية والعالمية المقبلة، ويعمل بذكاء على أن يكون فاعلا فيها، سوف يكون مستفيدا ومؤثرا في العالم الجديد، ليس شرطا أن يقام هذا العالم على انقاض المجتمع العالمي الذي أسَّسه المنتصرون في الحرب العالمية الثانية، وإنما على الاقل سيؤسس قطبا عالميا يكسر به الأحادية الأمريكية، والعالم الجديد بدأ يتشكل من خلال منظمة شنجهاي ومجموعة بريكس، وهاتان المجموعتان تمتلكان قدرات اقتصادية ومالية وثروات هائلة، إلى جانب أكثر من نصف سكان العالم.

ومما تقدَّم، ننظر للمنطقة الصناعية الصينية في منطقة الدقم الاقتصادية التي تم توقيعها يوم الإثنين الماضي، على أنها خطوة عُمانية نحو الانفتاح على العالم الجديد في التوقيت المناسب الذي يجعل لبلادنا السبق في الحصول على المكاسب الاقتصادية، وهذه الرؤية نفسها هى التي تدفع بدول أوروبية مثل بريطانيا إلى الانضمام إلى البنك التنموي الآسيوي الذي تقف وراءه الصين بقوة مع مجموعة دول بريكس؛ فرأسمال هذا البنك 50 مليار دولار، وسيتم رفعه إلى 100 مليار دولار، وبالاضافة إلى هذا البنك، تم إنشاء بنك جديد، وسيتم كذلك إنشاء صندوق احتياطات نقدية بقيمة 100 مليار دولار، وتطرح الصين وروسيا هذه المؤسسات كبديلة أو رديفة لمؤسسات دولية مثل البنك وصندوق النقد الدوليين، اللذين تم إنشاؤهما عقب الحرب العالمية الثانية، واللذين يعدان أهم وأنجع الأذرع المالية والاقتصادية للدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، إذن، الصين تتغير، ومع تغيرها، العالم يتغير، لكن إلى أي مدى سيكون التغيير الصيني؟ وكيف سيكون شكل العالم الجديد؟ من الملاحظة الدقيقة في الكيانات الإقليمية التي تمَّ تشكليها خلال الخمس سنوات الأخيرة، تداخل دول في عضويتها؛ مثل: إيران وأوزباكستان في اتفاقية عشق أباد التي تضم كذلك بلادنا وتركمانستان، ومثل منظمة شنجهاي ومجموعة بريكس التي تضم الأولى: الصين وروسيا وكازاخستان وكيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان، وقريبا ستنضم إيران، بينما تمثل فيها بصفة مراقب الهند وباكستان ومنغوليا، والثانية، هى الصين وروسيا والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا، هذه الدول التي تحاول صناعة نظام عالمي جديد يختلف تماما عن النظام العالمي الحالي، فأين تكمن أهمية منطقة الدقم في خارطة العالم الجديد في ضوء ما سبق ذكره؟ إنَّها -أي الدقم- تشكل حلقة مهمة في سلسلة الموانئ العمانية التي تربط شبه الجزيرة العربية بأسواق إفريقيا وشبه القارة الهندية وإيران وآسيا الوسطى، وقد عملت السلطنة على أن تصبح منطقة الدقم مركزا اقتصاديا مهمًّا للتجارة والصناعة والاستثمار في المنطقة التي هى قبلة للقوى العالمية في ظل النظام العالمي الجديد المتّجه نحو المحيط الهندي، وهو ما جعل مجلّة "ذي إيكونوميست"، تصف عمان بأنها أصبحت ورشة كبيرة لمشاريع قد تترك أثرا بالغا في اقتصاديات المنطقة.

ومن هذه الأهمية للدقم، جاء الاختيار الصيني لها، وما المدينة الصناعية الصينية في الدقم سوى رؤية صينية لمركزية الدقم الاقتصادية في العالم الجديد، وستقام هذه المدينة على مساحة إجمالية تبلغ حوالي 1170 هكتارا أي 11.7 كيلومتر مربع، وسيتم تقسيم هذه المساحة إلى 3 فئات رئيسية؛ الأولى بمساحة حوالي 870 هكتارا وهي مساحة قابلة للتقسيم وستخصص للصناعات الثقيلة والمناطق ذات الاستخدام المتوسط والخفيف والمختلط، وستقام الفئة الثانية على مساحة نحو 10 هكتارات وهي أرض غير قابلة للتقسيم تم تخصيصها لتنفيذ مشروع سياحي، أما الفئة الثالثة فستقام على مساحة حوالي 292 هكتارا وتم تخصيصها لإنشاء مصفاة للنفط ومجمع للصناعات البتروكيماوية، وتبلغ الطاقة الإنتاجية للمصفاة حوالي 230 ألف برميل يوميا، ويبلغ إجمالي الاستثمارات التي سيتم ضخها لتشييد المدينة الصناعية الصينية العمانية بالدقم حتى العام 2022م حوالي 10 مليارات دولار، ويبلغ عدد المشروعات التي سيتم تنفيذها بالمدينة حوالي 35 مشروعا؛ من بينها: 12 مشروعا في مجال الصناعات الثقيلة تتضمن إنتاج الخرسانات التجارية، ومواد البناء والصناعات المرتبطة بها، وإنتاج الزجاج المصقول وإنتاج الميثانول ومواد كيميائية أخرى، ومعالجة صهر الصلب، وإنتاج الألمنيوم، وإنتاج إطارات السيارات، ومشروع مواد البناء للحماية من المياه والتآكل، واستخراج الماغنيسيوم من مياه البحر، ومشاريع كيميائية عطرية وغيرها، وفي منطقة الصناعات الخفيفة سيتم تنفيذ 12 مشروعا تتضمن: إنتاج 1 جيجا واط من وحدات الطاقة الشمسية، و1 جيجا واط من البطاريات، وتجهيز 10 آلاف من سيارات الدفع الرباعي الخاصة، وإنتاج أدوات وأنابيب النفط والغاز والحفر، وإنتاج نصف مليون طن من الألواح الملونة، وتجميع الدراجات، وإنتاج الملابس، وإنتاج الألعاب، إضافة إلى مشروعات أخرى متنوعة، كما سيتم تنفيذ 8 مشاريع في المناطق متعدد الاستخدامات؛ من بينها: مركز تدريب، ومدرسة ومستشفى ومكاتب ومركز رياضي، وفي المنطقة السياحية سيتم إنشاء فندق من فئة الـ5 نجوم.

كل المؤشرات التي رصدناها تُشير إلى أنَّ بكين قد هيَّأت نفسها من الداخل لدور عالمي جديد يتناسب مع وضعها الاقتصادي العالمي ويحافظ على مصالحها الضخمة في الخارج، ويمكننا أن نـرصد هنا تحوليين كبيرين سيعينانا كثيرا على فهم الصين الجديدة بعد إعادة أمريكا إستراتيجيتها في المنطقة. أولهما: قانون مكافحة الإرهاب؛ ففي بعض مواده تعطي الجيش الصيني حق المشاركة في عمليات مكافحة الإرهاب خارج الأراضي الصينية عندما تتعرض المصالح الصينية الخارجية للخطر، لكنه يشترط موافقة الدولة المعنية، فهل تخلت بكين عن سياسة الحياد؟ وثانيهما: إقامة قاعدة عسكرية في جيبوتي قبل نهاية 2017 وبذلك تدخل بكين في تنافسية حقيقية مع أمريكا وفرنسا داخل هذا البلد، لكن دخول بكين كان مثيرا جدا، فقد كان عبر تعزيز طموح رئيس جيبوتي إسماعيل عمر غلة والمحيطين به لإعادة انتخابه لولاية جديدة عام 2016 رغم وجود معارضة سياسية من خصومه، وقد نجح فعلا قبل عدة أيام في إعادة انتخابه بعدما دعمته بكين باستثمارات هائلة لتمويل مشاريع ضخمة كمد خطوط سكك الحديد والعمارات الشاهقة في العاصمة ضمن وعود بأنْ تحول الشركات الصينية جيبوتي إلى "دبي ثانية" وقبلة لرجال الأعمال والمال، ويظل موقع جيبوتي الإستراتيجي هو المستهدف من التوجه الصيني، خاصة إذا ما ربطناه بمجمل التحولات الصينية الجديدة، فرغم أن جيبوتي دولة صغيرة المساحة وسكانها يبلغ عددهم 800 ألف شخص فقط، لكنها تتمتع بموقع إستراتيجي في منطقة القرن الإفريقي؛ حيث يدخل خليج "توجورة" عمق البر الجيبوتي لمسافة 61 كم لتمثل منطقة آمنة للإبحار تجاه البحر الأحمر، تعبر فيها أهم الصادرات والواردات العالمية، ويستخدم الميناء كنقطة انطلاق الأساطيل الأجنبية المتواجدة في المنطقة بهدف مراقبة خليج عدن وحماية الممر المائي من عمليات القرصنة. وتعد جيبوتي كذلك ذات أهمية كبرى كونها من المحاور الرئيسية للتجارة العالمية، إضافة إلى قربها من بؤر التوتر في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، فهي أهم دولة في مجال تأمين طرق التجارة وكنقطة انطلاق لمكافحة الإرهاب في منطقة القرن الأفريقي، والفهم الذي نخرج به، أن الصين لم تعد قوة اقتصادية فقط صاحبة أكبر الاسواق وأرخص المنتجات والمراكز الصناعية العالمية، وصاحبة احتياط نقدي يزيد على 6 تريليونات دولار، وإنما قوة سياسية وعسكرية تقود أكبر الاقتصاديات الناشئة في العالم، وتحاول معها انتقال مراكز القوة والثقل في الاقتصاد العالمي من الغرب إلى الشرق، وتسير الآن في طريقها إلى النجاح في ظل ما تعانيه أمريكا من مديونية تزيد على 18 تريليون دولار، ومن المفارقات التاريخية تناغم دول حليفة لواشنطن مثل بريطانيا وألمانيا مع الجهود الصينية -كما أسلفنا- ويقف وراء الشراكة العمانية الصينية الجديدة بُعدان مهمَّان؛ الأول: متغير عالمي مستشرف مسبقا من قبل الفكر السياسي العماني، وتلاقى هذا الاستشراف مع تناغم بعض الدول الغربية التي تشكل أحد أركان النظام العالمي القديم. والثاني: واقعية عمانية، بحيث أصبحت السلطنة تنسخ تجربتها السياسية إلى الاقتصاد بنفس النجاح حتى الآن، بوعي رفيع بحجم التحديات المقبلة، فمن خلال منطقة الدقم تجد بلادنا نفسها في قلب العالم الجديد الذي سيكون مركز قوته وثقل قراره في الشرق، دون أن تفقد مصالحها أو علاقاتها الإستراتيجية مع العالم الجديد الذي تقع قيادته في الغرب، وهذا يعد أكبر استثمار لسياستها الخارجية الناجحة، ولم يكن تسابق الصين وإيران والدول الأخرى على الاستفادة من الموانئ العمانية، إلا بعد أن اختبرت قوة الثقة في السلطنة، ومدى التزامها بتعهداتها مهما كانت الظروف، إضافة إلى ما تحظى به السلطنة منذ عقود من ظروف مثالية من الاستقرار والأمن في منطقة تعج بالأزمات والمشكلات، وسيظل هاجسنا قائما حول مدى انعكاسات منطقة الدقم الاقتصادية على اقتصادنا الوطني وعلى معيشة المواطنين مباشرة فمن خلال اطلاعنا على التجارب الصينية الاستثمارية في العالم، يمكن القول بأنَّ بكين لم تدخل اية منطقة في العالم إلا وقد كسبت بيئات استثماراتها حيث تقوم بتأسيس مراكز للتدريب وإقامة جسور ومدارس وجامعات ومستشفيات، كجزء من مسؤوليتها الاجتماعية تجاه بيئاتها الحاضنة لاستثماراتها، فهل لدينا وعي بهذه التجارب؟ وهل ستتكرر في بلادنا؟ هذا الهاجس سيظل قائما حتى نرى على الأرض نماذج مهمة للمسؤولية الاجتماعية للوجود الاقتصادي الصيني الجديد في بلادنا، أسوة بنفس الوجود في العالم.

تعليق عبر الفيس بوك