وداعًا.. شيخنا الناصح الغيور

عيسى الرَّواحي

قرأتُ قبل أيام كتابيْن للداعية الإسلامي السوري الراحل الشيخ علي الطنطاوي؛ أحدهما بعنوان "مع الناس"، والآخر "فصول اجتماعية"، وأعترف بتقصيري تجاه نفسي أنه لم يسبق لي من قبل قراءة أي كتاب للشيخ الطنطاوي.

الكتابان يبحثان في قضايا اجتماعية كثيرة، وهما عبارة عن أحاديث إذاعية ومقالات صحف كتبها الشيخ في منتصف القرن الماضي، ويبدو لي واضحا أنَّ أكثر ما كان يؤرق الشيخ من قضايا اجتماعية في هذين الكتابين، وربما في سائر كتبه، هي مشكلات الشباب، وقضايا الزواج ومآسي الانحلال الأخلاقي والفساد المستشري بين الجنسين. ولعلَّ اهتمام الشيخ بهذا الجانب، وبحثه في هذه القضايا، وأنه موسوعة من القصص والأحداث، يأتي من كونه عمل قاضيا في بلاده أكثر من ربع قرن مما ينطبق عليه قول الله تعالى: (...وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (سورة فاطر:14).

الاهتمامات وهمومها بهذا الجانب من قضايا الناس، التي حملها الداعية وناقشها كثيرا عبر مسيرته الدعوية، ووجه فيها رسالة إنذار إلى المجتمع وإعذارا إلى الله، ذكَّرتني بفضيلة الشيخ القاضي سالم بن خلفان الراشدي الذي انتقل إلى جوار ربه فجر الثلاثاء 16 شعبان 1437هـ الموافق 23 مايو 2016م، عن عُمرٍ يناهز ثمانية وخمسين عاما، وكنت أرى تشابها كبيرا -حسب وجهة نظري- فيما يؤرق هذين العالِمَيْن، وما يحملانه في أنفسهما من هموم وقضايا الشباب، وما يتعلق بهما من مشاكل وحلول.

ولعلَّ عملهما في سلك القضاء جعل هذا التقارب في الطرح؛ فهما يعيشان القضايا ويعرفان تفاصيلها، ويدركان ما يواجهه الشباب، ويوقنان جيدا ما ستؤول إليه الأمور من عواقب وخيمة جراء الفتن والإغراءات واختلاط الجنسين في مواقع العلم والعمل، وترك الحبل على الغارب لهما في سن الفتوة، والتساهل معهم في أمور لا ينبغي التساهل فيها.

لقد كان الشيخ سالم بن خلفان الراشدي غيورا على شباب بلده إلى درجة قلَّ أن تجد لها نظيرا، وكان يحترق كمدا من هول ما تصله من قضايا الشباب والفتيات التي تتعلق بالعرض والشرف التي هي أعز ما يملكه الإنسان، ولم يكن يوما -رحمه الله- عاجزا عن قول كلمة الحق، وتحميل كل طرف مسؤوليته؛ سواء أكان مسؤولا أم مؤسسة أم رب أسرة، فهو كما وصفه أحد الأصدقاء كان "صوت الحق".

وبحُكم عمله في سلك القضاء فترة طويلة، وكَوْنه شيخا فقيها عالما؛ فقد أصبح موسوعة من القصص والقضايا، وكان عندما يسرد بعضا منها -للعبرة والاتعاظ- لا تكاد تصدق من هول ما تسمع من قضايا، وما وصل إليه حال كثير من الناس من الدياثة وموت الغيرة إلى حد بيع عرضهم بثمن بخس في هذا البلد العزيز، ولكننا سنظل -وللأسف الشديد- نتجاهل ما يحدث أمامنا، ونظن أنه لا يعنينا، ونزكي أنفسنا، ونضع الثقة المفرطة العمياء فيمن استرعاهم الله أمانتنا، فإذا ما وقع الفأس على الرأس انتبهنا حينها، وندمنا في وقت قد لا ينفع فيه الندم، ولات ساعة مندم.

لم يكن الشيخ القاضي سالم بن خلفان الراشدي -رحمه الله تعالى- بحكم درايته وخبرته وأمانته وحبه البالغ لوطنه وأمته، وتأديته لواجب الدعوة إلى الله، منمقا لصورة الواقع التي يراها، ولا مجاملا أحدا فيما يعمله ويتحدث عنه، ولا خائفا أحدا غير الله أن يصرح بالحقائق المُرَّة التي ظل يحذّر منها، ويدعو إلى خطوات الوقاية قبل طرق العلاج طيلة حياته، وليس حديثه وتحذيره في القضايا التي يطرحها دليل نظرته التشاؤمية وتهويله للأمور، وإنما تصوير للواقع بصورته الحقيقية التي كان يعلمها ويراها ماثلة أمام ناظريه، وقد كانت غيرته الشديدة، وحرقته الكبيرة شباب بلده، وتفاعله البالغ مع طرحه تخرجه تارة في انتقاء بعض الألفاظ غير المناسبة التي لا يمكن تفسيرها بغير ما ذكرنا، إضافة إلى كونه بشرا غير معصوم من الزلل والخطأ؛ لكنَّ أهل السوء من الناس الباحثين عن السقطات كانوا يتصيدون مثل هذه الهفوات، تاركين تلك الدرر الثمينة والرسائل الإيمانية والتحذيرات المهمة المغلفة بحرارة الإيمان وإخلاص النصح التي كان يفيض بها الشيخ الوقور.

رَحَل الشيخ سالم بن خلفان الراشدي بعد حياة عامرة بالإيمان والدعوة إلى الله، وبعد سلسلة محاضرات كثيرة بثَّها في بيوت الله وصروح العلم المنتشرة في الأرض، قاطعا مئات الأميال في إلقائها رغم وضعه الصحي غير المستقر، كما كان -رحمه الله تعالى- يلقي درسا أسبوعيا في التفسير تحت عنوان "المرجان في أحكام القرآن"، وقد بلغ الجزء العشرين، وصدرت له عدة أجزاء.

كان الشيخ -رحمه الله- مثالا يحتذى في الزهد والورع والتواضع ودماثة الخلق وحسن التعامل وطيب المعشر، وكانت الدعوة إلى الله همه الأكبر وشغله الشاغل، وبرحيله تكون عُمان قد ودَّعت أحد أبنائها العلماء الأجلاء الذين يُعتبر فقدهم خسارة للأمة جمعاء. سائلين الله تعالى أن يتغمَّده بواسع رحمته، ويسكنه فسيح جناته، ويلحقه بالنبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ويلهم أهله الصبر والسلوان. وأختتم كلماتي المبعثرة القليلة في حقه بأبيات رائعة من قصيدة رثاء نظَّمها صديقي الشاعر مصطفى بن يحيى الرواحي بعد رحيل الشيخ بساعات، ومما جاء فيها:

أبكي حبيبا قـــــد ثوى... في الترب من أهل الوفا
أسفي لفقدك شيـــــخنا... حـــتى الزمان تأســـــفا
سهل العريكة لـيـــــن... ما كنت صـــلدا أجلـــــفا
أبكي بشاشة وجــــهه... وندى يديه فقد كــــــفى
لـــــما رأى أن الأنـــام... من الجـــحيم عـــلى شــــفا
أهدى النصيحة مشفقا... فلكـــم أبان وألطــــــــفا
وإذا أصيب بأحــــمق... يعفو ويصفح ما اشتـفى
وإذا المضائق جـــمة... كان المعــــــين المسعفا
وإذا ســــــواه طلبتهم... يوما ترى ســــود القفا
إن البـــــلاد بفــــــقده... أضحت بلاقع صفـصفـا
والنصح يطمس نوره... والجهل حل وما خـــفـا
يا موت فيمَ فجعـــتنا... وفجعت قلبا مدنـــــــفـا
عز النظير ومن يُرى... في نفــــــــــسه متعفـفا
من مثله يــــــك دائما... من ربه متــــــــــخوفـا
عجز اليراع بوصفـه... مهما أفــــاض وأرعفـا
إن الحياة كـــــــؤودة... هذا الزمان إذا صــــفـا
كلٌ يـســــير لحتـــفه... من ذا يـــروم المصرفـا.

issa808@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك