عبد الرحيم ليس غبيًا!

زينب بنت محمد الغريبية

حضر عبد الرحيم (البنجالي)، وبيده حقيبة أدوات السباكة، عند طلبنا من صاحب محل بيع أدوات البناء بأن يُحضر لنا سبّاكاً (شاطرا) ذا مهارة لصيانة أجزاء من دورات المياه، طبعًا البائع في المحل (بنجالي) ويُجيد اللُعبة (هذا نفر واجد مظبوط، كله فيه معلوم)، وما أن دخل عبد الرحيم الذي تبدو عليه البلاهة طبيعياً، حتى اتِّضحت حقيقة (البنجالي) التي ألفناها، وهي عدم معرفته بأي شيء، سوى أنّه سيُجرب وبعدها(كله فيه يمشي)، وكيف لا ونحن مُختبر التجارب لديهم، وما علينا سوى القبول بهذا الواقع المرير، لا يستطيع تحريك قطعة من مكانها حتى يسأل: أين يضعها؟ وما المكان المُناسب لها؟ ونحن في استغراب من منِّا السباك؟ لو كُنا نعرف كيف تبدو وتركب الأشياء ما أحضرناك!!.

عندما أخبرناه بأننا في حاجة إلى كهربائي ليقوم بصيانة الأدوات الكهربائية، رشّح نفسه على اعتبار أنّه سبّاك وكهربائي، وكان الحال بعمله كحال ما قام به في عملية السباكة، سمِعَنا نتحدث عن حاجتنا لـ(صبّاغ) يقوم بدهان أجزاء من المكان الذي سيتم عمل الصيانة به، فبادر بأنّه يستطيع أن يقوم بعملية الدهان، فقد سبق وأن قام بها، ولكنه في النهاية غادر البيت دون أن يقوم بأيّ من الأشياء التي أتى لعملها، فكان الغباء يشع من عينيه، ولم يكن لدينا حينها حديث في الفكاهة المؤلمة سوى عبد الرحيم، الذي جسّد الشخصية البنجلاديشية الجاهلة، التي أتت إلينا دون مهارة ولا علم ولا تقنية، فقط لتزيدنا عبئاً وتزيد من هدر مصادرنا الموجودة.

حكاية عبد الرحيم لم تقف عند هذا الحد فهذا شيء ليس بالجديد، وقد تعرّض له الكثيرون بالتأكيد إن لم يكن كل شخص منِّا قد تعرض له للأسف، بل ما يزيد من مرارة الحديث أننا مررنا صدفة بعد ما يُقارب الأربع سنوات من ذلك الموقف أمام محل للتَّسوق، ووقعت أعيننا على شخص يشبه عبد الرحيم الذي لم ننسَ تفاصيل ملامحه البلهاء وهو يُحاول صنع شيء أي شيء ليجني بعض الريالات لكنه فشل، بالتأكيد أنّ هذا الشخص يشبه عبد الرحيم، وليس هو فهو نظيف الملابس ويجلس واضعاً إحدى رجليه على الأخرى، ويرتشف كوباً من شاي الكرك، ونظرة عينيه تبدو أكثر حدة، ورأسه مرفوعًا بثقة، وأثناء نظرنا إليه أشار بيده أني قد عرفتكم، اقترب منِّا مُسلِّمًا:

  • هل أنت...؟
  • نعم أنا عبد الرحيم، أنا (فيه معلوم إنت)..
  • والآن (إيش فيه معلوم؟) سباكة؟ أم نجارة؟ أم كهرباء؟ بنبرة استهزاء..

وجاءت كلمات منه بعد هذا السؤال نزلت كالصاعقة، نطقها بكل فخر، وبصوت واثق، ليس كعبد الرحيم الذي جاء قبل أربع سنوات:

  • أنا صاحب هذا المقهى، وصاحب ثلاثة أفرع منه في هذه المنطقة، إضافة إلى شركة مقاولات أُديرها، بها طاقم عمل مكتمل لاحتياجات عملية البناء، وهذه سيارتي، وفي تلك العمارة أسكن مع عائلتي.

لم ننطق بأم كلمة إثر حجم الصدمة التي تلقيناها، عبد الرحيم (البنجالي) الذي لا يملك أيّ مهارة، وغير مُتعلم، وقد أتى مكبلاً بالديون من بلاده لشراء الفيزا التي تُمكنه من دخول البلاد، والذي يعمل مع العمالة السائبة، يلقط رزقه كيفما أتت له الأقدار، يصبح كل هذا، في زمن قياسي في عالم الأعمال والتجارة، ما الذي جعل عبد الرحيم بهذا الوضع؟ ما الذي ميّز عبد الرحيم عن شبابنا الذين يوقعون أنفسهم ضحية للبطالة، ويتركون الساحة لمثل هؤلاء ليستولوا على خيرات البلاد، وبعدها يلعنون القدر، ويلقون اللوم على غيرهم، عبد الرحيم لم يتحدّ الحياة في بلاده التي ربما لن تفتح له هذا الباب مهما فعل، بل تكبّد العناء والغربة، وغامر في حياة ببلاد لا يُجيد لغتها ولا ثقافتها ولا قوانينها، ولكنه ألقى بنفسه في هذا الصراع من أجل أن يكون وقد صار..

لا يُمكن أن نقول إنّ الحظ هو ما حمل عبد الرحيم ليصير هكذا، بل العمل والمغامرة، ولكن المغامرة المدروسة وفق مُعطيات السوق، لا يمكننا أن نقف مع المُتفرجين، ثم نندب حظنا الذي لم يحملنا لنكون مع من أصبحوا في الريادة، بلادنا وإن تأزمت اقتصاديًا، إلا أنّ الحياة لم تتدهور إلى حد دول أخرى، فعدد سكاننا يجعل منِّا قادرين على أن نلملم من أوضاعنا وفق معطيات كل منّا، وليبدأ كل منِّا من جهته، فهل سيتأثر عبد الرحيم بالوضع الاقتصادي بنفس القد رالذي سيتأثر به العاطل عن العمل، والذي ينتظر الوظيفة لتأتيه ببعض المئات من الريالات شهريًا، أو بقدر من أغرقته ديون البنوك، ويُقسِّم باقي راتبه بالكفاف على متطلبات بيته وأسرته الأساسية لبقية الشهر، وهو يأتي ليلزم البيت بعد انتهاء ساعات الداوم الرسمي، ويكتفي بالشكوى وقلة الراتب، ويترك الخير في أيدي هؤلاء الذين يفوقهم قدرات وعلم ومهارات..

يبدو أنّنا كُنّا مخطئين عندما نعتْنا عبد الرحيم بالغباء، وعندما ضحكنا عليه، كنّا نشعر بأننا أكثر ذكاءً منه، لكن الأيام أثبتت أنّ الحياة قد تضعك أحياناً في مواقف قد لا تكون فيها الأضعف لقلة حيلتك الوقتية، ولكنها تمنحك القوة عندما تكون قد وضعت لنفسك هدفاً وسعيت بهمتك وعزمك، وكافحت من أجل الوصول إليه، فالحياة أبدًا لن تعطيك السعادة والحياة الرغد وأنت نائم في مكانك، فـ" في الحركة بركة" لا سيما وإن توافر معها التخطيط السليم والصبر والإصرار.

تعليق عبر الفيس بوك