من الذي كسر الطاولة؟

 معاوية الرَّواحي

إنَّ قول الصراحة في عُمان أصبح يؤدي بالمرء إلى مهاوي الزعل والخصام؛ سواء كانت هذه الصراحة مع الحكومة بالانتقادات التي لا تروق لها ولنا، أو مع المثقف الذي أصبح إقصائياً أكثر عن أيّ وقت سابق. قبل أن أدخل في أزمة تعريفات، أعرِّف المُثقف بالكلمة المعتادة لغويًّا، بعيدًا عن الاشتقاقات اللغوية الاصطلاحية التي تُخرِّب المعنى الواضح، المثقف هو ذلك الذي يكتب أو يعزف أو يرسم أو يكتب في جريدة، أي أنه شخص له منتج عقلي أو فني: فالمفكر مثقف، والشاعر مثقف، والصحفي مثقف، والناشط مثقف، كل هؤلاء أجمعهم في حزمة تعريفية واحدة لكي أضع هذا السؤال الذي يشغل بالي منذ عدة سنوات: من الذي كسر الطاولة؟
الكلام هذا لن يعجب البعض من الطرفين بكل تأكيد، ولكن من الذي كان السبب الرئيسي في كسر طاولة الثقافة في عُمان؟
كل إنسان يُمارس الكتابة بشكل أو بآخر يعلم جيدًا أنّه منذ العام 2006 فصاعداً شهدت الثقافة في عُمان وشهد المثقفون دعمًا مباشرًا من قبل الدولة، كان هذا الدعم يُقدَّم عبر شخصية محورية في الدولة ألا وهو وزير ديوان البلاط السلطاني آنذاك السيد علي بن حمود البوسعيدي، الذي تفضل مشكورًا بعقد جلسة سنوية يجتمع فيها الكتاب العمانيون والفنانون والصحفيون ومختلف رواد الفن والتعبير والتفكير في عُمان، دُعِّم المثقفون دعمًا مباشرًا من قبل الحكومة، أغلبهم على الأقل، قلة صغيرة كانت ترفض الحضور، ومجموعة من الأسماء لم توجه لها الدعوة، وعلى المجمل كانت تلك المناسبة السنوية أوضح أشكال الدعم الحكومي للمثقف والثقافة، كانت الطاولة قوية وكان الحوار واضحًا، لم يخل المشهد من بعض القبح والانتهازية والتربح من بعض المثقفين، كما لم يخل من النبل والطيبة والشهامة، كل الأشياء كانت موجودة، ولكن لم تكن الحياة الثقافية والحالة الثقافية قبيحة كما هي الآن، الطاولة مكسورة ومهجورة ولغة الحوار أصبحت الآن تصل إلى اعتقال الكتاب بسبب اختلاف في وجهات النظر حول العمل الوطني.
يجب أن نقولها صراحة: هناك من خرج من العمل الثقافي إلى العمل السياسي، وهذا الفعل انعكس سلبًا على الثقافة كاملة، ونعم أتحدث الآن بلغة "هذا محسوب علينا"، لقد استعجل المثقف ثمرات عام 2011م، ودخل في العمل السياسي، ونعم صحيح تلك الشعارات البراقة التي كانت تقال في المايكروفونات من قبيل "هذه حقوق شعبية، وهذه حقوق كذا وكذا"، كنّا نرددها من وراء قلوبنا بشعور لا يخلو من العتب الشديد، كنّا نقول: "الذي يحدث سيودي بالثقافة للجحيم"، وقد كتبت هذا الكلام قبل أربعة أعوام، إنّ ما يفعله المثقفون من استعجال لدور الثقافة في المحيط "الاجتماعي-السياسي" سيؤدي إلى خسارات باهظة، وفعلاً حدثت هذه الخسارات وكان لي نصيب الأسد منها، كما كان لكل المثقفين نصيب منها، البعض كان نصيبه مضحكاً وما زال يتوجع من ضربة خفيفة جاءت على رأسه، والبعض تحمل القسوة الشديدة بقلب عاتب أو غاضب، ومن هناك دخلنا في معمعة جديدة، هجرت الطاولة وكسرت.
المثقفون هجروا الطاولة، ولكن الحكومة كسرتها، هذا الجانب الآخر من الصراحة الذي يجب أن يُقال، لم يقم كل المثقفين بدخول العمل السياسي، ونعم كانت هناك أخطاء فادحة من قبلهم، كان هناك حديث تعميمي باسم الشعب، وباسم الكتاب والأدباء، وباسم الوطن، وأيضًا من الجانب الحكومي كان هناك حديث تعميمي باسم الشعب وباسم الوطن، تبادل الطرفان الخطأ حتى وصلت الأشياء إلى ما هي عليه الآن، المثقف موتور وغاضب، والحكومة متوجسة، إلى أين سنصل ونحن على هذه الحال؟ إلى توتر جديد؟ الجميع يعرف أنّ هذه البلاد يُكاد لها من يمين ويسار، فلماذا تخسر الحكومة الصف الداخلي المُخلص للوطن؟ لماذا؟ إنَّ الوضع الاقتصادي الحالي يُلزمنا أن نرفع العصا وأن نقول "الحشم" بين الطرفين، وهي كلمة محلية تدعو إلى إيقاف الاقتتال والانتباه إلى الظرف الوطني القادم، وما قد يكون أزمة قادمة قد يكون لها ما بعدها.

المثقف هجر الطاولة إلى الساحة، وعندما ذهبت الساحة من تحت قدميه ذهب للطاولة ليجد أنّ المبنى الثقافي مهجور والكهرباء مقطوعة والطاولة قد كسرت. نعم لقد أخطأ المثقف أخطاءً فادحة في السنوات الأخيرة، قولي لهذا لا يعني أنني أدعم حصاره في حياته أو تشويه سمعته، بغض النظر عن الطرف الذي يقوم بهذا الفعل، لا أؤيد إيذاء المثقف في حياته أو سمعته، ولكنني يجب أن أقولها، وهذه الحرقة التي أشعر بها هي التي دفعتني للاختلاف الشديد في وجهات النظر أيام عام 2011، مع كل قبيلة الكتاب كما يسميها الدكتور عبدالله الحراصي، لأنّ قبيلة الكتاب صارت تمارس لعبة سياسية، وصارت تخادع الرأي العام، وصارت تتلاعب بالأوراق، نعم ألا يجب أن نقول ذلك صراحة؟ لماذا يحزن البعض عندما نقولها؟ ذلك كان، خطأ! خطأ! خطأ! وعندما انتهت الأحداث كلنا ككتاب دفعنا ثمن الخطأ، هل أوجه أصابع الاتهام وأقول هؤلاء دون الآخرين يجب أن يدفعوا الثمن؟ لا أقول ذلك، أنا مستعد لدفع الثمن نيابة عن زميلي الكاتب حتى تقوم الساعة، ولكنني بعدما دفعت الثمن، أدير ظهري للنصال التي تمزق صدري وتمزق ظهري، وأقول له: أنت الذي كسر الطاولة يا رفيق الكتابة!!

لستُ أدري ما هو القادم، ولكنني أتابع ما يحدث بقلق شديد فيما يخص الشأن الوطني، والذي يجد القضية الوطنية مجالاً للتربح وللوصول لسلطة أو لغاية فهجرته إلى ما هاجر إليه. أما القابض على وطنه في عُمان فتظل قضيته هي الوطن.

أرفع يدي، وأنادي في كل رفاق الكتابة وأقول "الحشم.. الحشم.. فلنعد إلى الطاولة، ولتهدأ الأشياء، فقد آن الأوان لذلك".

آن الأوان لتبديد هذا التوتر؛ سواء من قبل هؤلاء الكتاب أو من قبل الحكومة وهي الطرف الأقوى؛ لأنَّ هذا التوتر لن يخدم الوطن، ولن يخدم الثقافة، ولن يخدم الحكومة، ولن يخدم إلا الكائد والخائد والحاسد، فرفقًا بعمان، رفقاً بعمان، رفقاً بعمان.

تعليق عبر الفيس بوك