الأستاذة دنيا..!!

عائشة البلوشية

هل تذكرون شبيبًا الأزدي الذي سردت لكم نزرًا بسيطا من سيرته في مقال "سنانير شبيب" التي تؤرخها ذاكرة الأجداد -رحم الله من رحل منهم وأطال في عمر من بقي منهم- في أرض السر؟ حيث يروى أنّه كان منهمكا في عجن طين قرية "الغبي" اللبن، ويصنع بعض القوالب، ويبني بروجا مصغرة على الأرض، أشبه ما تكون بما يقوم به النحاتون اليوم على شواطئ البحار من قلاع ومجسمات رملية، فمر به أحد أفراد القبيلة وسأله: ما الذي تفعله يا شبيب؟ وﻷنّ شبيبا كان ذا فراسة شديدة وبديهة حاضرة رد عليه رغم استهجانه السؤال قائلا: "أبني وأبنّي، وعلومي أشد منّي" حيث شدد حرف النون في الفعل الثاني (أبنّي) بصيغة المبالغة، فهابه الرجل لمعرفته بأنّ شبيبا لا يقوم بأي عمل إلا ويكون المغزى وراءه عميق، وعاد أدراجه وروى ﻷهل القرية ما رآه من أمر شبيب، فقالوا له إنّها رسالة من هذا الرجل السر، بأنّ أمرا جللا سيحدث، لكنه لا يستطيع الإفصاح عنه، فقد دأب على القيام بأمور مستهجنة أو مستغربة حينما يعن عليه أمر، وكان ما كان من مجاعة ضربت تلك الأنحاء في ذلك الحين بسبب أسراب الجراد والقحط، وكان هو يدخر التمر تحسبا لذلك، فقد مرت عليه تلك الحالة قبل ذلك، فاختزن في ذاكرته ما يجعله متيقظًا وحاضرًا لمواجهة أي ظرف مماثل..

كل موقف يمر بنا في هذه الحياة هو درس عظيم يجب أن نستخلص منه العبر والمواعظ والدروس، وهنا أشير إلى المواقف المفرحة التي تجعلنا نقفز جذلاً من فرط السعادة، أو حتى المواقف التي تستحث المآقي لنغرق الأرض دموعا من شدة الحزن، مرورا بتلك المواقف الصادمة لنا بشخوص أعملوا سكاكينهم وألسنتهم في ظهورنا بطعنات وجروح ربما يظل ألمها ونزيفها مستمرًا معنا إلى ما شاء الله، أو أولئك الوصوليين الذين استغلونا جسورًا لهدف دنيوي زائل، أو تلك الفئة الملائكيّة في صورة بشر يضعهم الله في طريقنا، فيلجمون ألسنتنا خجلا من جميل صنيعهم.

أستغرب وبشدة من الذين يقعون في نفس الفخ، والأنكى من ذلك أنّهم يمرون بنفس الحبكة أو السيناريو، وكلما وقعت الفأس في الرأس تعللوا بطيبتهم المفرطة، وقلوبهم الحساسة، متناسين تلك المقولة (المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين)، وينزفون دموعا من دم في كل مرة، وسرعان ما تمر الأيام ليقع المرء منهم في نفس الفخ.

الكيّس الفَطِن هو ذلك الذي يستحضر العقل وقت النعمة بأي شكل كانت، ويتعامل معها من هذا المنطلق أنّها (نعمة)، وإن كان ظاهرها لا يوحي بذلك بتاتا، فما الذي سأجنيه إن جلست أسح دموعًا لا انقطاع لها بسبب مشكلة ما؟ هل سأعيد دولاب الزمان وأصلح الخطأ؟ إنّ الإجابة واضحة بالطبع، فما الذي عليّ فعله في هذه الحالة؟ أولا وقبل أي شيء يجب أن أثق بأنّ الله تعالى قد وضع تلك المعضلة في دربي ليؤهلني إلى ما هو أكبر، ليجعلني أقوى وأشد لتحمل الحياة بآمالها وآلامها، وما هذه الدنيا التي نحيا سوى جامعة عريقة، ننتقل فيها من سنة دراسية إلى أخرى، محملين بالمعارف والخبرة التي تتراكم عبر السنون، وكل شخص نمر به خلال هذه الرحلة التعليمية يعتبر معلما، قد يترك بنا أثرا من درس تعلمناه أو جرحا تألمناه، وفي كل الحالات يجب ألا نكتب ذلك الدرس بالطبشور على سواد لوح المشاعر، وإنما ننقشه بحروف من نور تضيء لنا التجارب المُقبلة.

إنني أغبط العسكريين حول العالم في أحد أهم أساليب التدريب لديهم وهي (المعاضل)، فهي تدربهم على الانتباه إلى أهميّة كل ما حولهم من معطيات وظروف ورسم خريطة المعضلة للوصول إلى الهدف في الوقت المحدد، وهذا الأسلوب هو من أولويات الوقوف على أي مشكلة في الحياة العادية، والتأني قبيل الإقدام على أي عمل قد ينسف الأمر، وتتضخم المشكلة لتغدو كارثة على النفس أو الأسرة أو المؤسسة التي يعمل بها الشخص، لذلك وجب علينا في محيطنا الضيق ومن خلال تعاملنا مع أفراد أسرتنا، أن نضرب مثلا لمن حولنا في كيفية التعامل مع أي معضلة تقف أمامنا ونحن نمضي في طريق الحياة، وأنا نتعامل مع هذه الأمور بيسر وذكاء، ونعيش معها وكأننا نحل لغزًا كبيرًا يخصنا، فحتى أنتقل إلى مرحلتي القادمة، يجب أن أقفز ذلك الحاجز، وأحل تلك المعضلة، وأفك هذه الشيفرة، مع شحن بطاريتنا بقوة الثقة بالله، وحسن الظن به، والتعامل بقلب مملوء بالسلام مع النفس والغير...

توقيع:
"أخفي الهوى ومدامعي تبديه.. وأُميته وصبابتي تحييه
ومعذبي حلو الشمائل أهيف.. قد جمعت كل المحاسن فيه
فكأنه بالحسن صورة يوسف.. وكأنني بالحزن مثل أبيه"


ابن الفارض،،،

تعليق عبر الفيس بوك