"حريّة الصحافة"..حق مقرون بالمسؤولية

أمل الجهورية

في ظل عالم متسارع التغيرات، تبدو الأشياء متناقضة مع الشعارات التي تنادي بها الكثير من المؤسسات؛ تأكيداً لمبادئها أو اهتماماتها ومن بينها "حرية الرأي والتعبير" التي تضمنتها شعارات الاحتفاء باليوم العالمي لحرية الصحافة، والذي شهدته الكثير من دول العالم الأسبوع المنصرم؛ من خلال التأكيد على حقوق الصحفيين، وأهمية احترامها والاعتراف بها من قبل الحكومات، فكانت المشاهد المصاحبة لها مغايرة؛ حيث وقعت الكثير من الممارسات التي أثارت استياء عدد من النقابات الصحفية بالاعتداء على الصحفيين في دولها، ووقوع عشرات الصحفيين في الدول المحتلة تحت قبضة الظلم والمعاناة، استمراراً لوضع صحافتها التي تفتقد لمعنى الحرية، ولا تنسب لها أي حقوق بسبب الظروف السياسية التي تعيشها، وفي الضفة الأخرى من العالم الذي تعيش دوله حالة من الاستقرار السياسي تظهر إشكالية أخرى تقيد حرياتها الصحفية، وتضعف مستوى حرية الرأي والتعبير فيها، ليس بسبب القيود المفروضة والقوانين الصارمة بقدر ما يكون الأمر مرتبطاً بآلية ممارسة ذلك الحق وصعوبة توجيهه في الطريق الصحيح الذي أوجد حالة من عدم التوازن بين الحق والمسؤولية؛ وجعل الممارسين للإعلام يتفاعلون بشكل كبير مع الطفرة الإعلامية الهائلة للفضائيات ومنصات التواصل الاجتماعي، ليعيش البعض ممن ينادون بحرية الرأي والتعبير دور البطولة عبر تلك المنافذ الإعلامية متناسين الكثير من ضوابط وأخلاقيات المهنة، متجاهلين بأن تقدم المجتمعات اليوم في الكثير من المجالات مرهون بمستوى حرية الصحافة فيها، فلا تطور اجتماعي أو اقتصادي أو تنموي في بلدان تحجب فيها حرية الصحفي أو تضعف فيها حرية الرأي.

لكن الأمر يبدوا مختلفاً تماماً بوجود قناعة لدى السياسات الحكيمة بأهمية حرية الإعلام، المنبثقة من حرية الرأي والتعبير، ويلعب ذلك دوراً بارزاً في تحقيق المعادلة المطلوبة بين الحق والمسؤوليات؛ لتكون تلك الكلمات التي قالها حضرة صاحب الجلالة -حفظه الله ورعاه- في افتتاح مجلس عمان في العام 2011م: "... لقد كفلت قوانين الدولة وأنظمتها لكل عماني التعبير عن رأيه والمشاركة بأفكاره البناءة في تعزيز مسيرة التطور التي تشهدها البلاد في شتى الميادين، ونحن نؤمن دائما بأهمية تعدد الآراء والأفكار وعدم مصادرة الفكر؛ لأن في ذلك دليلا على قوة المجتمع وعلى قدرته على الاستفادة من هذه الآراء والأفكار بما يخدم تطلعاته إلى مستقبل أفضل وحياة أسعد وأجمل..." بمثابة نهج واضح رسم بها جلالته ملامح هامة لحرية الرأي والتعبير في السلطنة، ومدى الأهمية التي تشكلها باعتبارها مشهداً من مشاهد تطور أي بلد؛ ولهذا لم يكن الأمر غريباً أن تأتي كلمات جلالته التي قالها منذ سنوات متناسقة مع الشعار الذي تبنته اليونسكو في احتفالاتها باليوم العالمي لحرية الصحافة لهذا العام، والذي يسلط الضوء على العلاقة بين حرية الإعلام والتنمية المستدامة؛ لأنّ حريّة الإعلام واحدة من الحريّات الأساسيّة وحق من حقوق الإنسان، وترتبط إلى حدّ كبير بالحق الأوسع نطاقاً في حريّة التعبير، وتشمل الحق في البحث عن المعلومات والحصول عليها وتبادلها، حيث تعدُّ حرية التعبير حقاً مهماً للغاية بالنسبة للحقوق الأخرى وللتنمية المستدامة، وهذا هو السبب الذي دفع أمم العالم إلى الإقرار، في أهداف التنمية المستدامة الجديدة التي اعتمدﺗﻬا في العام 2015م، بأنّ التنمية المستدامة تشمل "كفالة وصول الجمهور إلى المعلومات وحماية الحريات الأساسية". وعليه تعدّ حريّة التعبير مهمّة من أجل تحقيق الغاية 10 الخاصة بالهدف 16 من جدول أعمال التنمية المستدامة لعام 2030 والمتمثل في "التشجيع على إقامة مجتمعات مسالمة لا يُهمّش فيها أحد من أجل تحقيق التنمية المستدامة، وإتاحة إمكانية وصول الجميع إلى العدالة، وبناء مؤسسات فعالة وخاضعة للمساءلة وشاملة للجميع على جميع المستويات".

إنّ التأكيد على هذا الحق لم تغفل عنه الجهات المعنية بالإعلام في السلطنة حيث عملت على اقتراح تعديلات على قانون المطبوعات والنشر ليواكب تطلعات المرحلة الحالية، وينظم عمل الإعلام الجديد، كما قدمت لجنة الإعلام والثقافة بمجلس الشورى مقترحا لقانون حق الحصول على المعلومات وتداولها خلال الفترة السابعة للمجلس، والذي جاء نتيجة دراسة واسعة، واستعراض لتجارب عدد من الدول في هذا المجال؛ حيث تتبنى اليوم أكثر من 90 دولة من دول العالم لمثل هذا الحق، والذي يعكس القناعة بأنّه كلّما تحسّنت إمكانيّة وصول الجمهور إلى المعلومات، كلّما تحسنت الظروف المواتية لاحترام الحريّات الأساسّية التي تشمل سلامة الصحفيين، وتتسع معها دائرة الشفافية في التعامل مما يعزز بيئة التنمية والاستثمار في البلد ومعه تتحسن الكثير من الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية الأخرى. ويتزايد إدراك المرء لهذه الأمور في ظل العصر الرقمي، إذ تشتد الحاجة إلى المعلومات شيئاً فشيئاً وتصبح ضرورية لتحقيق التنمية المستدامة، ممّا يؤدي إلى تزايد أهمية الحق في الإعلام، وأهمية ضمان حرية الصحافة وسلامة الصحفيين.

وتعد النتائج التي كشف عنها التقرير السنوي لمنظمة مراسلون بلا حدود للعام 2016م، أنّ العالم العربي "لا يزال منطقة تضييق على حرية الصحافة"".وجاءت الكثير من الدول العربية في آخر قائمة من 180 بلدا شملها التقرير، وجات سلطنة عمان في المركز 125متقدمة مرتبتين بعد أن كانت 127 في العام 2015م، ورغم هذا المستوى الذي كشفه التقرير إلا أنّ المشهد العام للحريات الصحفية في السلطنة يبدو أسعد حالاً وأوفر حظاً مقارنة بالظروف التي يعايشها الصحفيون في دول العالم الأخرى؛ حيث تكفل السلطنة للفرد الحرية عموما، وتمنحه حرية الرأي والتعبير؛ وإن وجدت بعض المطالبات من الوسط الإعلامي بتحقيق المزيد منها من خلال اكتمال الرؤية وتحقيق الأهداف الطموحة في هذا المجال؛ فإن ذلك الأمر يعكس الرغبة الجادة من قبل العاملين في هذه المهنة في الارتقاء بالوضع الصحفي في السلطنة.

ما يجب أن نستحضره ونحن نطالب بمزيد من حرية الرأي والتعبير أنّ تحقيق حرية الإعلام مرهون بتوفر المعلومة الصحيحة وإتاحتها للصحفيين أولاً، ومن ثمّ توظيف تلك المعلومات بالطريقة التي تحقق التنمية والارتقاء بالبلد، وما يجب أن نعيه جيداً أنّ الأهم من المطالبة بالحرية الصحفية هو معرفة آلية ممارسة تلك الحرية وحدودها؛ بحيث يمكن استثمارها في تعزيز أخلاقيات المهنة بعيداً عن التعدي على حقوق الآخرين والمساس بمكانة الدولة أياً كانت الدوافع والأسباب ولا بد أن تعكس الحرية التي يمارسها الصحفيون الفكر الراقي الذي يتمتعون به كونهم أرباب الكلمة والقلم في كل بلد، وأن تُسخر تلك الحريات في خدمة الدولة وتعزيز مكانتها وإمكانياتها؛ لأنّ حرية التعبير لا تعني بأي حالٍ من الأحوال احتكار حرية الآخرين ومصادرتها؛ لأنّها ليست من الديمقراطية والشرع في شيء، وأنّ حرية الصحافة هي حق مقرون بالمسؤولية.

amal.shura@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك