بيدك أنت.. وأنت فقط!

عائشة البلوشيَّة

هل أحسست يوما بلحظة أردت فيها الانغلاق على ذاتك والهرب من معمعة الحياة؟ هل واجهك موقف في عملك جعلك ترغب في الهروب من التعقيدات أو الظلم الواقع عليك إلى جزيرة بعيدة خالية من أبسط أنواع الاتصالات؟ هل جاءك أحد أبنائك طالبا منك شراء غرض ما -قد يكون مهما وقد لا يكون- فتدلى رأسك على صدرك ﻷنك لا تملك الرد عليه؟ هل طرق بابك سائل ولذت بباب حجرتك متمترسا ﻷنك -وأنت الباسط يديك- لا تملك ما تعطيه؟ هل فقدت حبيبا وطبعت آخر قبلة على جبينه مودعا إياه إلى يوم يبعثون، فانتابتك أحاسيس بأنه ما عاد للحياة طعم أو نكهة أو لون؟ هل تحس بأنك أصبحت كالدولاب الذي لا يتوقف عن الحركة لدرجة أنك لا تستطيع النوم بيسر بسبب طيور الأفكار المختلفة التي تحوم حول وسادتك؟ تقبع الكثير والكثير من الأسئلة المحشوة بالأحاسيس المنهكة خلف أداة الاستفهام (هل)!

تأخَّر بها العمر ولم تتزوج، فجئنها قائلات بأن سحرا أسود أصابها، وآخر عقد قرانه على عروسه وطلقها بعد شهر، فقال له صحبه بأنه ممسوس، وأولئك فقدوا طفلا جميلا وهو في عامه الثاني، فاجتمعوا حولهما بأن عينا تفلق الحجر هي السبب، وذلك بدأ مشروعا وخسر رأس ماله، فركضوا إليه لاعنين الحظ الذي لا يقف إلا إلى جوار الأثرياء، فيزيد الثري ثراء والفقير فقرا؛ يبنون أعشاشهم السوداء بين تلافيف أدمغتنا، ويدسون أنوفهم في خصوصايتنا ليوهمونا بأننا مصابون بالسحر أو العين أو سوء الحظ أو سوء الطالع، فيبحرون في تلك المنحنيات الدقيقة في أدمغتنا ليتأكدوا بأنهم أصابوا الهدف، فيا من انخدع بما دس له ذلك في عقله، وصدق أكاذيبهم، دعني أسألك بنفس أداة الاستفهام التي استخدمتها آنفا: هل تعتقد بأن ما أصابك كان سيخطؤك لو أنك اتخذت حذرك ممن أراد بك السوء؟ هل تعتقد أن الساحر هو من يصيب؟ أم الحاسد هو من يصيب؟ أم الحظ هو من يختار؟

للأسف؛ فإنَّ الكثيرين يصدقون هذا الوهم الكاذب، وينسون أو يخدرون ذواتهم عن أن كل شيء يمر بنا ما هو إلا قضاء وقدر، وأن كل ما جاء أعلاه لا يتعدى خط (السبب) وفقط، وعلينا الأخذ بالأسباب، متيقنين بأنَّ هذا كله جاءنا ﻷنه قدر له أن يصيبنا، وما فلان أو علان إلا سبب يصل من خلاله ذلك القدر، وأننا لو صدقنا تلك الترهات سندخل من له القدرة على نفعنا أو ضرنا من غير الله -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- ولا يمكن بل من المستحيل أن نجد ترياقا ناجعا إلا إذا تسلحنا بالقوة الإيمانية القوية؛ ﻷننا بذلك سنعيد شحن بطاريات أرواحنا بطاقة إيجابية هائلة مستديمة، وعلينا مع الرضا بما قضى لنا ربنا أن نحسن الظن به بأنه سيكشف عنا ما نحن فيه، وأن نتوكل على الواحد الأحد؛ ﻷنه بغير ذلك ندخل والعياذ بالله في دوائر السواد والسوء والشرك.

ويجب أن نلتفت إلى الشخوص المحيطين بنا، مع اتساع دوائرها، من الأسرة الصغيرة إلى المجتمع بأسره، وأن نغربل كل كلمة نتلقاها، وأن لا نقلل من شأن أي نصيحة تأتينا حتى وإن كانت من طفل صغير، فلا نحكم عليه بقلة خبرته وسذاجته، ﻷنه الصفحة البيضاء التي لم تتلوث بماديات الحياة بعد، لذلك فأنا شخصيا أتلقى نصائح الفرح الطفولي والمتعة الفطرية البريئة من أسئلتهم التي لا تنتهي، ولا تعزف عن الأخذ بنصيحة الشيخ المسن فهو من أبحر في يم السنون وخاض مياهها ضحلها وعميقها، وبعدها تقرر أنت ماذا تريد أن تكون، فإذا أردت السعادة فخذ بالأسباب أولا، واملأ جيوبك وحقائب سفرك في هذه الحياة بالقناعة والرضا بكل ما يأتيك، حتى وإن كان مغايرا لما ترجوه، وإذا أردت الشقاء فترجل من القطار واقبع في محطة اليأس وقل: (هذا هو حظي النحس).

في صورة عُمانية لشخصية سندريلا، كتبت قصة تراثية من أساطير الجدات تم نشرها عام 2000م بعنوان "بنت السماك"، قصصت كيف أن بنت السماك ذاقت كؤوس الويل والحرمان من زوجة أبيها وابنتها، ولكنها لم تتخل عن تلك الطاقة العجيبة من الأمل بالله تعالى، حتى جاء والدها يوما بصيد من البحر وذهبت لتنظيفه استعدادا لطهيه لوجبة الغداء، ولكن سميكة صغيرة اتخذت طريقها في البحر سربا، وبدأت علاقة صداقة بينهما، وأصبحت تلك السميكة -الجنية- تساعدها وتجلب لها الطعام الفاخر، وغيرها من الأحداث المشوقة، ولكن ما بين سطور تلك الحكاية الشعبية هو تلك الألفاظ السيئة التي كانت تسمعها ابنة السماك من عمتها كل يوم، وتلك النعوت السلبية التي كانت تمطرها بها، حتى تصنع منها إنسانة بليدة ضعيفة، ورغم حزنها الشديد لما تجده من فارق كبير في المعاملة بينها وبين اختها، إلا أنها كانت تستعيد تلك الكلمات الإيجابية التي كانت تتناثر على اختها، وتغمض عينيها وتوجهها لنفسها، وعندما تحكي ذلك لسمكتها الصديقة كانت تعزز من ذلك الشعور الإيجابي بها، حتى كبرت وأصبحت فتاة رائعة الجمال والأخلاق، فكانت زوجة الأب تولول نادبة حظها بقولها: "أعلم مي وخذته ماجدة، ويا ليت ماجدة ما جابتها الوالدة"؛ وخلاصة القول أن الإيجابية من أهم أنواع الغرس الجميل الذي يجب أن نغرسه في نفوس أطفالنا، وإلا كبروا ناقمين متأففين من كل شيء، وأن لا شيء يرضيهم أو يعجبهم على الإطلاق، حتى وإن أشعلنا أصابع أيدينا شموعا تنير ظلمة الحياة لهم، ولمن مضى به العمر أقول لم يفت الأوان تسلح بالواحد الفرد العلي وكلمه مناجاة وقل: رضيت يا رب فرضني وارض عني.

-----------------------

توقيع:

"لا تحتقر كيد الضعيف فربما.. تموت الأفاعي من سموم العقارب

إذا كان رأس المال عمرك فاحترز.. عليه من الإنفاق في غير واجب"

من أشعار/ نجم الدين أبو محمد اليمني

تعليق عبر الفيس بوك