ثقافة الببغاوات!

عنقاء الروح

عَرَّش على روابي الخيال
زادهُ الأحلام ونبعهُ الأوراق والألوان والشجن
على أكتافه تتكالب الأحزان
وفي عينيه يثور الحنينُ ريحا وعطشا ورمال
وتاريخ العارف على كل حال
موتٌ بداء العطاش..
لا ارتواء مهما شَرِب ..

يغفو الآن
ينوس
هزّه الغيابُ والتعبْ
فوق الشفاه طعم الملح
والصمتُ الحارقُ اللذع
يحدّق في السراب الغائم حولهُ
وعلى أوراقه التاريخ والأيام
بحبره الصارخ
يستجير مما كان
ويستجدي ما سيكون

************

المثقف مسمى تدارسه الكثير من المفكرين بحثا في دلالاته وغوصا في معانيه، وقد تواترت الأبحاث والنظريات في ماهية الثقافة والمثقف والعلاقة بينهما ودور المثقف، فشكّلت مجالا حيويا بالغ الاستقطاب في العلوم الإنسانية، لا سيما في علم الاجتماع السياسي وعلم الاجتماع التربوي، ويمكن القول أنّ تعريف أيا منهما ليس بالأمر الهين، لأنهما كالكثير من مفاهيم العلوم الإنسانية يُعبران عن حقائق اجتماعية نسبية، سريعة التغير والتبدل، ولا يمكن أن تتبلور على صورة حقيقة نهائية، لذلك سأكتفي بطرح بعض هذه التعريفات التي تتواءم مع مغزى هذا المقال .

مفهوم "المثقف" مفهوم مستحدث في اللغة العربية وقلما ترد كلمة "مثقف" في معاجم اللغة ولكننا نجد في هذه المعاجم الفعل "ثقّفَ" ويأتي بمعنى (حذق) كما في الصحاح، وقد ظهرت كلمة "مثقف" لأول مرة في اللغة العربية في قاموس (محيط المحيط) لبطرس البستاني في نهاية القرن التاسع عشر كترجمة لكلمة "Intellectuel" الفرنسية، أو "أنتلجنسيا" الروسية، وقد عرفت هذه الكلمة في القاموس بمعنى قريب جداً إلى المعنى المألوف والمتداول في المجال الثقافي وتأتي بمعنى (متعلم وله معرفة بالمعارف) أي ذو ثقافة، ويعرّف معجم العلوم الاجتماعية المثقفين "بأنهم الأفراد الذين يتميزون عن باقي أفراد المجتمع بالخبرة والمعرفة ويستخدمونها في مواجهة المواقف الجديدة بنجاح أو حل المشكلات الجديدة بابتكار الوسائل الملائمة".

وربما من أجمل ما قيل في توصيف المثّقف هو ما ورد عن الشاعر المغربي المعروف صلاح بو سريف إذ يقول: "المثقف" ليس مفهوماً مُحْكماً، قطعياً، مُمْتَلِئاً بتعبيراته، وما يحمله في طيّاته من مداليل، بل إنه مفهوم متموج، منشرح، ما فيه من فراغ، ومن مساحات شاغرة، أكثر مما فيه من امتلاء، وهذا ما يسمح بضرورة الإضافة والملء، وبالمراجعة الدائمة، أو البدء من جديد على الدوام، ليس بنفي المفهوم وإلغائه، بل لتجديده، وتحيينه، ووضعه في سياق المتغيرات الحادثة والطَّارئة" وربما قراءتي لهذا المفهوم هي ما دفعني لإتمام هذا المقال بعد تردد لصعوبة طرح الموضوع والإلمام به لتشعبه ولحساسيته في ظل التخبط والخلط الحاصل في مجتمعاتنا العربية اليوم؛ فلأن المفهوم مفهوم متغير يجب أن يتلاءم مع معطيات الواقع كما وصفه صلاح بو سريف يمكنني أن أطرح هنا عدة تساؤلات في محاولة لتحريك الفكر لا أكثر، حيث أن تحريك الفكر يعد من أهم واجبات المثقفين ولا أدّعي أنّي أحدهم.

يعلم أغلبنا أن مفهوم "المثقف" مرتبط بقضية "دريفوس" الجندي الذي اتهم بجريمة الخيانة العظمى في فرنسا، وحكم عليه في 22 ديسمبر عام 1894 بالنفي إلى غوايانا والموقف المعروف للروائي الفرنسي إميل زولا ونخبة من المثقفين الفرنسيين أمثال: أناتول فرانس، ومرسيل بروست، وسينيوبوس، وليون بلوم، ولوسيان هير، الذين دافعوا عن دريفوس بنشر بيان في جريدة "لورور" الفرنسية في 14 يناير 1898، فأعيدت المحاكمة وتمّ تخفيض الحكم ومن ثم تبرئته في نهاية الأمر، لذلك أصبح مفهوم "المثقف" لصيقا بمفهوم المعارضة السياسية والنقد للسلطة ومقاومتها عندما يقتضي الأمر، وما أود طرحه هنا: هل لا بد للمثقف أن يكون معارضًا على الدوام ليتقلد وسام الثقافة؟ إذا هل تعني الثقافة أن يردد المثقف الشعارات كالببغاوات دون وعي وفهم لمعنى ما يردده ومنبعه وانعكاساته وتداعياته؟ هل تعني الثقافة أنّ ننسلخ من كل موروث باسم مواكبة العصر رغم أنّ الثقافة في صلب مفهموها إنها نتاج للدين والعادات حيث عرف الفيلسوف الكندي تايلور الثقافة على إنها "ذلك المركب الكلي الذي يشتمل على المعرفة والمعتقد والفن والأدب والأخلاق والقانون والعرف والقدرات والعادات الأخرى، التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع"؟ هل يمكن أن نطلق على من تنقصه الحكمة في تحليل الأمور والتعامل معها لقب مثقف؟ وهل المثقف الحق هو من يعتلي المنابر أم من يكون له دورا فاعلا يساهم في الرقي بمجتمعه ويساهم في ظل الظروف الراهنة في الحفاظ على هويتنا وثوابت مجتمعاتنا وسلامتها وردع الصدع الحاصل وجمع الشمل؟ وهل من الثقافة في شيء في أن يصمت "المثقف الحقيقي" يائسا من الوضع الراهن ومن تفشي "أشباه المثقفين" فيترك لهم المجال في التمادي في المزيد من الفوضى والجهالة؟ هل تعني الثقافة التعصب لفكر ذاتي أو أيديولوجيات معينة بغض النظر عن ضررها؟

في النهاية أقول إننا في عصر جوجل لسنا بحاجة لببغاوات تسرد علينا ما حفظته ولم تفقهه، نحن بحاجة لمثقفين حقيقيين قادرين على التجرد من الأنا المتحيزة العمياء، وتأمل الوجه الصواب من كل فكرة جديدة، لمثقفين بفكر متقد وضمير واع وتجربة عميقة، بحاجة لمثقفين يمثلون ثقافة وطنهم أولا قبل التماهي بالثقافات الأخرى، لمثقفين يحاسبون الذات قبل أي شيء ويرتقون إلى مستوى المسؤولية التي يحملونها على أعتاقهم، كما في مثال الفيلسوف الفرنسي سارتر حين فسر الفرق بين المعرفي والمثقف فقال : "المعرفي الأمريكي الذي يعمل في إطار الطاقة الذرية ليس مثقفا، وإنّما تقني للمعرفة العملية، وقد يصبح مثقفا عندما يطرح على نفسه السؤال حول أهميّة القنبلة الذرية وينتهي باستنكار ما يعمل" فأين نحن من هكذا مثقف اليوم؟ وأين هو منّا؟!

anqaa_alrooh@yahoo.co.uk

تعليق عبر الفيس بوك