ثنائيَّات الفشل

رحاب أبو هوشر

القوَّة والنجاح.. عنوانان اجتماعيان مشوها البنية، ومفرغا من مضمونهما الحقيقي، يعوضا غياب المفاهيم والرؤية بالالتفاف عليهما، وانتزاعهما من سياقاتهما الفكرية والمعرفية. يحولان بين الفرد واستكشاف طاقاته الذاتيه ونموها، ويصادران حقه في اختبار قدراته وإمكانياته ورغباته، ويمارسان قسرا مفاهيم كونية على الاتساق مع مفاهيم اجتماعية بدائية، لثقافة متضخمة بالأوهام، ومعيارها الوحيد مرآة تاريخية مهمشة، لم يعد يعرف أو يعترف بسواها. سيرى الجميع فيهما أبهى انعكاس لصورهم، ويرى كل منا نفسه جميلا، بل الأجمل، فمثل هذه المرآة لا تتسع لانعكاسات صورة جماعية.

ازدراء الفشل وقرنه بالضعف، والإصرار على النجاح وقرنه بالقوة، هو ما منحتنا إياه ثقافتنا الاجتماعية، وما يتغذى عليه الأطفال منذ أن يتعلموا المشي والكلام، وهي قيم مهمة وضرورية، لصوغ شخصية الفرد والجماعة، لو أنها قامت على مفاهيم إنسانية وفكرية وأخلاقية، أو صدرت عن فلسفة تعظم الإنسان كقيمة أساسية في الحياة، فتؤنسن معه قيم القوة والضعف، والنجاح والفشل.

وفي أول خروج له إلى الحياة، يجب على الطفل أن يكون "غالبا"، هذا ما تُلقِنُنا إياه تلك الثقافة، وما تدفعنا إليه دفعا قهريا، أما أن يكون "مغلوبا"، فهذا يستدعي سخط العائلة، وقلقها على مستقبله أيضا. إذا ما تعارك المرء -طفلا- مع أقرانه، وخسر "المعركة"، ذهبت الحادثة وصمة عار لترافقه سنوات، أما إذا فشل في دراسة أو علاقة عاطفية في مرحلة الشباب، فذلك العار الذي لن ينمحي من سيرته، ويصبح ما حدث معه، قصة للتندر والضحك في السهرات بعد عشرين عاما، وإن غلبته الدنيا بعد ذلك، صار فاشلا مسكينا، مثارا للشفقة وربما للسخرية!

بَيْن هذه الثنائيات النمطية، تغيب أي مساحة وسطى، ويغيب الميدان الحقيقي لاختبارات القوة والضعف، وتجريب النجاح والفشل، واكتشاف الذات والأدوات وطرق الدروب بمنعرجاتها واستقامتها أيضا، وبروز المواهب والميول وتقدير القدرات والإمكانيات والاعتراف بها. عوضا عن ذلك، هناك إنكار لتلك المساحة، يتوطأ عليه المجتمع، بأفراده ومؤسساته، فإما أن تكون قويا أو ضعيفا، مهزوما أو منتصرا، ناجحا أو فاشلا.

ماذا أنتجت تلك الثقافة المسكونة بأوهام القوة والنجاح، والمنفصلة عن واقعها والعالم معا، بتكريس تلك الثنائيات؟ أنتجت الفشل، وهو مُنتَجُها الأهم والأكثر وضوحا.

في مجتمع "العباقرة"، لن نعثر إلا على المسكونين بالخوف من الفشل، الفاقدين لثقتهم بذواتهم وطاقاتها. إنهم أسرى الخوف من تحقيق النجاح أيضا، الحريصون على إخفاء ضعفهم، وادعاء القوة، وإن استدعت الحاجة اختراعهم نجاحات كاذبة ومواهب زائفة، فمن كتب مقالا أو أصدر كتابا، وإن كان رديئا، ظن في نفسه عبقرية لم تتح لسواه، وحامت في رأسه احتمالات العالمية، والموظف يشعر بأنه الأجدر بالمنصب الأرفع، وإن كان يشغل وظيفته بالواسطة، وسائق التاكسي في حالة دفاع مستمرة عن مهنته، التي لا يعدها المجتمع عملا "ناجحا"، فلولا سوء الحظ لكان في موقع آخر، وآخرون لا يخرجون من فشل إلا ليقعوا في آخر، مصرين على إنكاره، وإنكار مسؤوليتهم عنه، ولو جزئيا.

الواقع يُخبرنا بأننا لم ننجز إلا الفشل، في مجتمعات تصر على كونها ناجحة، ويرى أفرادها جميعا أنهم مميزون، ولا بد أن يلازمهم النجاح طوال حياتهم، وأنهم يمتلكون القدرات الكلية لممارسة مختلف الأعمال، ويصلحون لكل الأدوار!

النجاح الحقيقي المبني على المعرفة والتجريب وامتلاك حس المغامرة، غير معترف به، لأن معاييره تتناقض مع المنظومة الثقافية، فأن تعمل ما تحب ويتفق مع مفردات شخصيتك، وما يتواءم مع قدراتك وطموحك الفردي، مغامرة خارج سياقات الثنائيات النمطية، حيث يصبح المرء في مهب احتمالات الفشل أو النجاح، النصر أوالهزيمة. وأن تفشل، فلا يعني إلا نهايتك مهنيا واجتماعيا، وربما إنسانيا، أما أن لا يقتلك الفشل وأن تمضي بالمحاولات، فهذا يعني أنك مضطرب، لا تملك البصيرة، وستثير الريبة حولك. يمكنك على الأقل أن تماثلهم في الوعي والسلوك، وفشلك بحد ذاته ليس مهما، ولكن احرص على الكذب والإنكار، وادعاء النجاح، وإن كان وهما في رأسك. اكذب وراكم الفشل، وتنقل مثل قنبلة تبذر السخط والغضب والرغبة بتحطيم الناجحين، إذ ستصبح ناجحا بقدر ما تعيق تقدم الأقدام الراكضة حولك، وهكذا، تحقق نوعا من شفائك. كلنا فاشلون، والفشل مع الجماعة، نجاح، بل عبقرية.

الثقافة العاجزة فقط لا تحترم الضعف باعتباره وجها من وجوه الإنسان، بل وضرورة لنمو شخصيته وتطورها، ولا ينفصل أبدا عن نقاط قوتها، ذلك لأنها لا تقر بقيمة الإنسان، وتمارس حجرا على طاقاته وقدراته، وعلى حقه في اختبار الضعف كما يختبر القوة، فتصادر خياراته وأفقه، وتدفع به نحو إنتاج متوالية من الفشل. ومجتمع لا يحترم الفشل مفهوما وتجربة، بوصفه مكونا عضويا للنجاح ودافعا أساسيا له، سيبقى النجاح خرافته المفضلة.

تعليق عبر الفيس بوك