وردة جدتي .. برائحة الدنيا

زينب بنت محمد الغريبية

ذهبتُ لزيارة جدتي. التي تقطن خارج مسقط، جدتي كانت مريضة، ولونها شاحبا، استقبلتني بوردة وردية وزهور الياسمين لتضعها في يدي، وتقول لي: خذي هذه الورود من مزرعتي، خذيها لتشمين رائحة الدنيا، اختزلت بكلمتها هذه رائحة الدنيا في وردة وردية جميلة حولها وردات الياسمين الوردية، أعطتني كل معاني الجمال في الحياة، حتى والإنسان على فراش المرض، جدتي لم تكن متفائلة بتفاؤل تلك الكلمات التي أطلقتها لي مع الزهرات، وهذا حال كثير من كبار السن لدينا، جل جلستي معها كانت تذكر لي من رحل من الكبار، وأنه لم يتبقَ أحد.

هكذا عهدنا كبار السن عندنا، يتقوقعون في أماكنهم، ويتمسكون بآراء لا يُمكن أن تغير من قناعتها، ويمارسون حياة روتينية اعتادوا عليها، مضى عليهم الزمن، وانتقلت بهم الحياة، لنمط لم يعهدوه، بيوت مغلقة، وحياة مختلفة بأجهزتها الغريبة عليهم، وسلوك الأجيال الحالية، فأحدث ذلك فجوة بينهم وبين الأجيال الحالية، نشعر ونحن نتكلم إليهم بأننا نصطنع كلامنا، وننزل لهم، والحقيقة لو أننا أخذنا أنفسنا من الواقع الذي اقتنعنا به، على أنّه العصر الأفضل، واستمعنا لتجارب من زمنهم، لعرفنا معنى حركة الحياة، وإنتاج الإنسان من أجل أن يعيش.

كبارنا يقيدون أنفسهم في روتينهم، ونحن لا نرغب أن نشاركهم ذاك الروتين، وهم لا يرغبون أن ينطلقوا في هذه الحياة، ليغيروا ما بداخلهم، ويشعرون بطعم الحياة قبل زوالها، يعيشون في دواخلهم، ماذا لو استطعنا إقناعهم بالسفر والانطلاق، بالذهاب للمقاهي والنوادي لممارسة الرياضات، وتكوين صداقات، والسفر للخارج في مجموعات سياحية مع الأصدقاء، والقيام برحلات سياحية داخلية، بتنظيم منهم بأنفسهم، كيف ستكون حياتهم؟!

الحياة النفسية الصحية، تسهم في الصحة البدنية، وتعطي أفقاً أوسع للحياة، ورائحة الدنيا ستبدو حينها كتلك الوردات، ولكنها ليست على فراش المرض، بل على سطح الأرض وربوعها، حين لا نستسلم للزمن، ونطلق عنان أنفسنا، فلا حدود حينها للسعادة والتوازن النفسي، كفى ما نحمله في شبابنا من كدح في الحياة من أجل تأمين حيواتنا، وأبنائنا، وما أن ينقضي الشباب شعرنا بأن حياتنا انتهت لأننا شخنا، وأبناؤنا ما عادوا في حاجتنا، فهم أصبحوا الآن في دور الكادحين، وتقاعدنا نحن لنلزم الروتين القاتل الذي يُقيّد حياتنا ويجعلها رتيبة وخانقة؛ نحسب من كبروا وماتوا، ونتتظر الدور، فماذا بعد المشيب؟

قال الرسول الكريم(عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم): "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا" قالها كبث رائحة الوردات في أفق الحياة، لنستمتع بمتع الحياة في ضوء قوانين وضوابط حددها لنا الشرع ليس للتقييد، بل من أجل التنظيم والتوجيه نحو الصواب، حين يستمر فيها الإنسان، بعمل ما يشغله، لا يرهقه بل يُسليه ويجعل منه مُنتجاً، ليجعل وقته في شي مفيد، ويترك مساحة أخرى للترفيه عن نفسه، والاستمتاع بما لم يستطع الاستمتاع به وهو في موسم شبابه الذي قضاه في ركضه وراء العمل الشاق، وتأمين الحياة.

نمط الحياة الذي يحكم بيئتنا، يحتم عليهم أن يكونوا هكذا، نمط الرتابة الذي تعيشه معظم البيوت بسبب ارتباطها بالمدارس والأعمال، يجعل منّا آلياً ننتقل بنفس الرتابة حتى لو زالت تلك العوامل، هل لنا التحرر قليلاً من تلك القيود؟ هل لنا إعادة النظر في جدولة حركاتنا اليومية، أو حتى استغلال الإجازة الأسبوعية بشكل صحيح، بالأحرى إعادة تنظيم حياتنا لتصبح أكثر وضوحًا في صحتنا النفسية وبالتالي تنعكس على صحتنا الجسدية.

ودعت جدتي بوعد منها أن آتي لاصطحابها معي لمدة أسبوع نخرج فيه سوياً أنا وهي من دواخلنا التي قيدت كل منّا بعصرها التي تعيش فيه، لنندمج في عصر يجمعنا نعيش فيه جو من روائح الدنيا، ننعم فيه بشيء من السكينة وسط الضوضاء المحيطة.

تعليق عبر الفيس بوك