إشكالية خطابنا الاقتصادي في عصر المتغيرات!

د.عبدالله باحجاج

أثار المكرَّم حاتم بن حمد الطائي عضو مجلس الدولة ورئيس تحرير جريدة "الرؤية" في مقاله الأخير "تجديد الخطاب الاقتصادي"، إشكالية نقل الأفكار والمفاهيم من الخَلَف إلى السَّلف، في استنساخات نمطية تقليدية تفقدنا التكيف مع المتغيرات والتحولات المحلية والعالمية، وهذه كبرى الإشكاليات التي ينبغي التوقف عندها قليلا؛ لأنها تتعلق بالنتائج المرجوة من تحولات المجال السياسي الوطني عبر حقبتين زمنيتين مهمتين، لا تفصلهما سوى ست سنوات فقط؛ الأولى: الإصلاحات الشاملة عام 2011، وتحديث النخب الوزارية. والثاني: إعادة هيكلة اقتصادنا التي بدأت مع بداية العام الحالي 2016 وما يصاحبها من عمليات إصلاحية فيها قدر كبير من الآلام الاجتماعية لمواجهة الأزمة النفطية التي تفجرت في منتصف العام 2016.. فماذا ستنتج لنا أزمة الخطاب الاقتصادي التي يتحدث عنها المكرم الطائي؟

ينبغي أن يُعمَّق النقاش ويفتح الحوار دون قيود حول كيفية صناعة قوة البلاد المستقبلية في خضم المتغيرات العالمية والتداعي الإقليمي للتكيف معها؛ لأنه لا ينبغي أن تتخلف بلادنا عن ركب التداعي وصناعة قوتها الجديدة في عصر بدأت الدول الخليجية فيه سباقا محموما نحو إعادة بناء اقتصادها دون النفط، علما بأنَّ بلادنا قد سبقت هذه الدول بعقود في هذا التوجه، لكنها كانت تفتقر للفريق التكنوقراطي الذي يترجمه الى واقع ملموس رغم وجود الإمكانيات المواتية التي لا تزال قائمة، ومنذ بداية العام 2016، منحت الحكومة مرة أخرى مباركة سياسية عليا لتحضير البلاد لمرحلة ما بعد النفط في رؤية بعيدة المدى 2040، لكن يبدو أنها ستصطدم بالنمطية والتقليدية دون الاهتمام بالتنظير الذي يعد أهم أنواع التجديد في عصرنا الحالي، وهنا ينبغي أن نتساءل عن السبب الذي يؤدي بفريقنا الاقتصادي الحالي إلى نقل أفكار ومفاهيم سلفه الاقتصادي؟ وكيف يرضى بالحلول المؤقتة بدلا عن الحلول الدائمة؟ هل هناك أزمة فكر؟ من المفارقة الكبرى أن نراهن على تجديد الخطاب الاقتصادي دون أن يكون هناك أفق سياسي دافع ومحفز للتجديد، ومحاسب له في الوقت نفسه إذا ما توفرت النخب الفكرية المؤهلة للتجديد، وإذا لم تتوفر، فلا يمكننا التطلع للتجديد بمعزل عن المجددين، فالقضية فكرية في المقام الأول؛ وبالتالي لا يمكن فصل الفكر عن ذاته المعنوية، فبينهما علاقة تلازمية، فإذا اردنا التجديد، فعلينا البحث عن المجددين، والدليل، ما يسلم به الطائي في مقاله المهم جدا، وذلك عندما يرى أن المفاهيم التي يركز عليها الخطاب الاقتصادي العماني لم تتغير كثيرا خلال 25 عاما الأخيرة رغم المتغيرات والمستجدات العالمية، هذا صحيح، ويمكننا أن نضيف إليها المتغيرات الداخلية التي أشرنا إليها في مقدمة المقال، فهناك مجموعة إصلاحات كبيرة قد أدخلت منذ ست سنوات، ونخب وزارية جديدة، فلماذا ننسخ القديم ليحكم واقعنا الجديد؟ والتجديد يعني اصطلاحا: إصلاح ما أفسده الدهر، وترميم ما خربته الأيدي، وإزاحة الغبار عما تركته الأزمان والعصور، وهذا الإصطلاح ينطبق شكلا وجوهرا على حالتنا الاقتصادية وبالذات في مجال التنوع الاقتصادي، فقد استيقظنا مجددا على أزمة نفطية كشفت لنا حجم الفشل البنيوي الكبير لرؤية 2020 في مجال التنوع الاقتصادي، ومنذ الإعلان عن التوجه الجديد للتنوع الاقتصادي، والهاجس ينتابنا حول تكرار تجربة الفشل، غير أن هذا لم يعد هاجسا بعد ما كشف الطائي عن أن الأفكار والمفاهيم تراوح مكانها لجهة تكرار النمط السائد وتبني الحلول المؤقتة، فنسخ الأفكار والمفاهيم من السلف للخلف، هل سببه التبعية أم ازمة فكرية؟ في كلتا الحالتين، فإن هذا لن يخدم مستقبل البلاد الجديد -داخليا وخارجيا- لأنه وفي كلتا الحالتين سنظل بعيدين عن تحقيق ما أسماه الطائي بالصورة الكلية التي تفتح الآفاق أمام استدامة الفرص، والاستمرار في هذا الخلل سوف يكرس نفس المبدأ المتوارث من السلف، ويعمق النمطية والتقليد، ويجعلنا أسرى الحلول المؤقتة، وهذا لن يحررنا من مبدأ الدولة الريعية التي تقوم على توزيع خيراتها على عدد محدود من المنتفعين على حساب الاقتصاد والمجتمع.

وما تقوم به حاليا لجنة تداعيات الأزمة الاقتصادية على المجتمع بمجلس الشورى، يتناغم كثيرا مع هواجسنا وقلقنا، فقد طلبت حضور معالي الأمين العام للمجلس الأعلى للتخطيط والوزير المسؤول عن الشؤون المالية ووزير التنمية الاجتماعية إلى مكتب المجلس لعدم استجابة جهاتهم لمناقشة المقترحات التي قدمتها اللجنة للحد من آثار الأزمة الاقتصادية على المجتمع؛ فلماذا ترفض هذه الجهات مثل هذه المناقشة؟ إذن، أين الشراكة التي تتحدث عنها الحكومة؟ فهذه اللجنة تتوفر فيها كفاءات متخصصة وملتزمة بالأجندة الوطنية، فلماذا تصر هذه الجهات على تنفيذ مرئياتها فقط دون الاعتداد بمرئيات الشركاء؟ وهذا التطور يفتح لنا سلبية جديدة في الأداء الحكومي، وهى الاستفراد بمعالجة الأزمة وحل تداعياتها، وهذا لن ينصب في مصداقية سياساتها وإجراءاتها إذا غبيت الشركاء، وإذا لم تستمع منهم، وكيف تريد أن تقنع المجتمع بسياساتها وإجراءاتها، وممثلي المجتمع مغيبون، ومن خلال الأدوات البرلمانية، يمكن للأعضاء انتزاع الشراكة بقوة القانون، وإذا استغلت الحكومة الثغرات في القانون، فهناك هامش للأداء البرلماني ينبغي أن يفعَّل، وفي المقابل كنا نتمنى لو أقدم مجلس الشورى كذلك على إقامة لجنة خاصة بالتنوع الاقتصادي لمراقبة ومساءلة الحكومة بصورة دورية حتى تشكل ضغطا على الأداء من أجل تأمين النجاح بدلا من جعل الجهات الحكومية هى المؤطرة وهى المنفذة وهى المراقبة للنتائج.

إذن، ما هى الخطوة التالية؟ إن انكشافات المكرَّم الطائي، وما نطرحه من هواجس مشروعة، تدفع بالحكومة إلى تقويم سريع للخمسة أشهر الأولى من زمن الخطتين السنوية والخمسية التاسعة (2016-2020) من ناحيتي: المفاهيم والأفكار ومدى تناغمها مع المتغيرات الدولية والمحلية من جهة، ومن ناحية الأداء السياسي والاقتصادي وآفاق ومستقبل مساراتها وما ترفعه من شعارات مثل إعادة الهيكلة والإصلاح من جهة ثانية، وهناك تساؤلات سوف نجد أنفسنا معنيين بالإجابة عنها أثناء عملية تقويمنا؛ مثل: مدى قوة ونفاذ رؤيتنا لعصر الدولة الجديد؟ وإذا كانت كذلك، هل تتوافر لدى الفريق المكلف بتنفيذها الرغبة الجادة؟ وإذا توفرت: هل يمتلك قوة التنفيذ؟ بمعنى هل الأداء الاقتصادي الراهن يسير ببلادنا نحو التحول في الهيكلية الاقتصادية بعد تبني خمسة قطاعات رئيسة كمصادر دخل أساسية وبديلة مستقبلا عن النفط؟ وهى قطاعات الصناعة التحويلية والسياحة والخدمات اللوجستية والتعدين والزراعة والأسماك، وما هى الخطوات التنفيذية التي اتخذتها الحكومة حتى الآن التي يُمكن أن تحقق لنا الأهداف الإستراتيجية من تلك القطاعات؟ وهل تجعلنا نطمئن على المستقبل؟ وهل سوف تفتح لنا تداعيات السياسات والإجراءات الحكومية إكراهات اجتماعية؟ لابد من هذه الوقفة التقويمية عاجلا وليس آجلا، لأننا في البداية، والنهاية تظل محكومة دائما بالبدايات.

تعليق عبر الفيس بوك