أولاد الغيتو

عهود الأشخرية

وصلتْ لإلياس خوري مسودة لرواية (آدم دنّون) عن طريق المصادفة، وربما من حسن حظنا أن نقرأ تاريخ فلسطين عن طريق هذه التفاصيل الصغيرة والمهمة في ذاكرة الخراب الأزلي، والبحث عن بقع الضوء في زحام الموتى، والحياة التي تظهر في المشهد أحيانا. الياس خوري يقول أنه تردد كثيرا في نشر الدفاتر التي وصلت إليه من صديقته الصينية سارانغ لي، ويعلل ذلك لشعوره الغامض الذي يمتزج بين الإعجاب والحسد والحب والكراهية، لكنه بعد سبع سنوات يقرر نشرها كي يتخلص من شعور الكره تجاه ذلك الشخص الذي هو "آدم دنّون". نادرا ما تتلبسني رواية إلى هذه الدرجة؛ أعني أنها مثلا تزورني في أحلامي، وأبقى أفكر في أحداثها لساعات طويلة من يومي. أتذكر أن آخر مرة أحسست بذلك في رواية سنان أنطون "وحدها شجرة الرُّمان"، تلتقي الروايتان في ملامح الحرب والتيه وصوت الرصاص القادم من كل مكان، والأماكن الضيقة والألم المتصاعد والمتمدد حتى الأبدية البعيدة.

آدم دنّون يتحدث قبل كل شيء عن بطله وضّاح اليَمَن، الذي آثر أن يموت في صندوقه بدون أي صوت حتى لا يؤذي حبيبته "أم البنين"، فكان رمزًا للعشق. أنا لا أعلم مدى صدق قصة وضّاح اليَمَن من الرمزية التي اعتقدها آدم دنّون وكان واثقا من أن وضّاح سيكون رمزًا فلسطينيا، واستعارة إنسانية عن الفلسطينيين. ويجب هنا ألا يهمنا صدق الحكاية من كذبها كما يشير آدم دنّون ويعطي مثالا لذلك حقيقة وجود امرؤ القيس "لا يهمني إن كان امرؤ القيس حقيقيا أو مخترعا، فما معنى الحقيقة هنا؟ هناك قصة ترتبط بهذا الشاعر وهناك قصائده، وهذا يكفي كي يكون حقيقيا، بل أكثر من الحقيقة نفسها. ومن هنا أنا لا أفهم كيف يدافع الكتّاب عن أبطالهم بالقول أنّهم خياليون وليسوا واقعيين. تبًّا لهم، فأنا اعتبر هاملت حقيقيا أكثر من شكسبير، والأبله أكثر حضورًا من دوستويفسكي وإلى آخره".
نعود لوضّاح اليمن الذي أحب فتاة وكتب لها القصائد وتغنى بها، لكن أهلها قاموا بتزويجها لرجل آخر كي يخرجوها من الفضيحة - كما ساد في ذلك العصر- فأصيب بالجنون وبقيّ صامتًا منذ تلك اللحظة لأنه أحبها "روض" بصدق وجنون لذلك فقد كان مصيره الجنون أيضا حين فقدها، وضّاح الذي سميّ بهذا الاسم من شدة جماله الذي سحر به نساء عصره حتى أنّه كان مجبرًا على أن يرتدي قناعًا، انتهت قصة حبه الأولى بهذه الطريقة الجاهلية.

في جهة أخرى وبطريقة ما أحبّت "أم البنين" هذا الشاعر المجنون، فذهبت باحثة عنه حتى وجدته وقامت بدعوته إلى بيتها، وبعد هذا اللقاء تحولت أم البنين إلى "روض الثانية"، ربما أحبها حتى ينسى حبه الأول، وربما بإرادته مزج بين المرأتين في امرأة واحدة. فبذلك بدأت قصة الحب السرية بين أم البنين ووضاح اليمن، خبأته عن الخليفة في غرفتها، وحين تشعر باقتراب الخطر تخبئه في صندوق لها، لا يهم كل هذا، المهم أن القصة انتهت بمعرفة الخليفة لخيانتها فأخذ الصندوق ودفنه، وبذلك مات وضّاح اليمن دون أن يقول كلمة واحدة أو يدافع عن نفسه.
ومن هنا بدأت قصة آدم دنّون.آدم دنّون الفلسطيني الذي يعيش في نيويورك هاربا من قصة حبه كي يكتب مذكراته عن الغيتو، وعن ذلك التاريخ الذي هرب منه مرغما، ما أوقظ رغبته في الكتابة والسفر إلى ذاكرته حين شاهد فيلما في صالة سينما نيويوركية عن فلسطين يقول آدم: "كان المشهد غريبًا، رأيت حياتي تتمزّق أمامي، ورأيت كيف تمّ إخراج جثث أصدقائي من الذاكرة كي يجري تشريحها أمام الناس، أحسست بالغضب، ثم تلاشى غضبي في دوار خفيف، صاحبه غثيان وشعور بأنني أوشك أن أتقيأ. لا يحق لأحد أن يحوّل الذاكرة إلى جثة، ثم يقوم بتشريحها وتمزيق أوصالها أمام الناس كي يصنع فيلمًا"، هكذا كانت ردّة فعل آدم حين شاهد ذلك الفيلم والذي اعتبره مأساة كاذبة، لكنني أعتبره فرصة جميلة لأنه بفضله قرر آدم كتابة التاريخ الحقيقي لنا.

آدم يعيش في الشك، حتى أنه ليس متأكدا أن أمه هي أمه، ومن هذا الشك يظهر اليقين أمام ذاكرته المتوقدة بالألم، سميّ آدم عن طريق أهل الغيتو، لأنه أول طفل يولد في الغيتو مستشهدين بأول البشرية آدم عليه السلام، أمه منال كانت تريد تسميته حسن على اسم والده الشهيد، والأعمى مأمون كان يريد تسميته ناجي؛ لأنه نجى من المأساة التي حلّت بسكان اللد آنذاك "الغيتو"، قرر آدم ترك البيت حين تزوجت والدته منال رجلا آخر كان يعامله بقسوة ويضربه، لم تمانع منال في ذلك بل شجعته على الرحيل ربما لأنها كانت تريد أن تعيش المأساة وحيدة ولم تدرك أنه سيعيش لاحقا في مأساة أصعب مع ذاكرته.

ترك آدم البيت حاملا معه وصية والده والذي لا يعلم لم أخذها معه وهي لا تعنيه أساسا لأن لا شيء يربطه بوالده الشهيد والذي يكتشف لاحقا أنه ليس والده الحقيقي، كان يريد أن يتحرر من كل ما يربطه بذلك الأذى الذي لحق به من وجوده في الغيتو، ويتخلص من زجاج ذاكرته المكسور والملّطخ بالغموض قبل كل شيء، لكنه بدأ يبحث عن كل شيء بعد حياته في نيويورك.
يربط آدم حياته بحياة وضّاح اليمن الذي مات في الصندوق، لكنه كان يموت يوميا خارج الصندوق، العالم الذي نعيشه يشبه صندوق وضّاح اليمن الذي تختبئ فيه الحكايات، وكل منا لديه حكاياته الخاصة التي قرر أن يدفنها، أو أن يموت معها في الصندوق ذاته الذي مات فيه وضّاح، فوضّاح هنا إشارة إلى شيء خاص بنا جميعا.
أما عن الغيتو وهو "اسم أحياء اليهود في أوروبا"، والذي كان أهل اللد يظنون أن معناه "أحياء العرب"، فالحكاية بدأت عام 1948 حين هاجمت اسرائيل مدينة اللد الفلسطينية ومنها بدأت النكبة والتي كانت آثارها الخوف والهرع والضياع الذي انطبع في الأحياء حين كان سكان اللد يتعثرون بالجثث، وصوت الذباب ورائحة الموت التي غطّت المدينة، وأيضا يتعثرون بالجوع والعطش والظلام الذي بقيّ يحاصرهم طويلا.

في هذا العام تحديدا ولد آدم دنّون كأول مولود في الغيتو، لكن رائحة الطفولة لم تغطي رائحة الموت بل كانت قاسية جدا بسبب الجوع والعطش والخراب المادي والمعنوي، الطفل الذي خرج بقصة وهمية لكن أحدا لم يهتم حينها بذلك، بل على العكس كانوا فرحين بولادة الحياة من جديد في مكان مدمّر ومليء باليأس. يقول آدم في مذكراته وبحثه عن ذاته: "الموت الذي أرى شبحه أمامي ليس يأسًا من أيّ شيء، فأنا أعيش ما بعد اليأس، لست يائسًا أو وحيدًا. صنعت يأسي بنفسي وجعلت منه فيئًا أستظله ويحميني من السقوط من السذاجة واللاجدوى".
في هذه الرواية ذاكرة مليئة بالحياة، لأن الموت هو أن تتوقف عن البحث، لكن آدم لم يتوقف على الاطلاق بل بقيّ يمد ذاكرته بالضوء والشك حتى يتبين له اليقين، لم يترك وطنه بإرادته ولم يترك أمه منال التي ليست أمه بإرادته أيضًا، كان مجبرا وضعيفا ولا يملك إلا قرار الرحيل من نهر الذكريات والألم، لكنه بقيّ متدفقا حتى آخر ثانية من عمره. فقد عادت إليه الحكاية من هربه منها، كان يودّ أن يعطّل ذاكرته فلم يتمكن من ذلك لأن الذاكرة هي الحياة، ولن يتمكن أحد منا العيش في هذه الحياة بذاكرة معطّلة حتى وإن كان عنوانها الضياع.
فلسطين قضيتنا الأزلية وحين أجد من يكتب عنها بهذه الطريقة البديعة أشعر بأمل خاطف ومجروح يمرّ من أمامي.. لكنه أمل حقيقي في النهاية.

Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك