"ربَّاع".. سفير عُماني يمخر عباب البحر محملا برائحة القهوة والزعفران

 

الأمواج الهادئة رسمت تفاصيل جولة "الرؤية" على مرفأ "المارينا" بالموج مسقط

 

إنها ليست رحلة فوق الأمواج نستظل فيها بأشعة الشمس بل هي جولة ممتعة لاستكشاف جمال الطبيعة العُمانية بسخائها

 

رغم أن المادة المصنوع منها طراز السفينة تواكب مستجدات الصناعة الحديثة إلا أنها تراعي الحفاظ على الهوية العُمانية

 

 الرُّؤية - هيثم صلاح

 

لم تكن الأمواج في ذلك اليوم كعادتها في الأيام الفائتة، حتى أشعة الشمس كانت خافتة، على الرغم من أن اليوم كان الجمعة؛ إذ كان مرسى المارينا بمنطقة الموج مسقط، على موعد مع وصول السفينة البحرية "ربَّاع"، التي قطعت ستة أيام في عرض البحر من ولاية خصب إلى حيث مسقط العامرة؛ لم يشعر خلالها طاقم السفينة ولا رُبانها بمكابدة عناء هدر الأمواج ولا ظلمة البحر في مساءات باردة؛ وكان عبدالفتاح بن أحمد الشحي (ربان ومالك السفينة) وهو يسرد لنا مغامرات الأيام الست كأنما يستقي شيئاً من حكايا الأجداد.

 وخلال رحلتنا على متن السفينة "ربَّاع" -والتي استمرت قرابة الثلاث ساعات ونصف الساعة- كانت وحدها المتعة عُنوانا للترحال على متن تلك التحفة الفنية، التي تحمل بين ثنايا كل قطعة منها السَّمت العُماني القديم. فعلى الرغم من أن المادة المصنوع منها طراز السفينة تواكب مستجدات الصناعة الحديثة؛ إلا أنَّ الشحي راعى في تصاميمها المحافظة على الهُويَّة العُمانيَّة، كما ظل هو أيضا محافظا على السمات المميزة للشخصية العُمانيَّة الفريدة.

 فالكرم والطيبة ورحابة الصدر وحُسن الترحاب وعبق اللُّبان وزعفران الحلوى العمانية ووجبات الأسماك المطبوخة على النسق المسندمي العجيب؛ جعلت من سفينة "ربَّاع" بمثابة أنموذج عُماني ُمصغَّر، فما إنْ تلج أقدامك السُّلم الصاعد للسفينة، حتى يستقبلك الطاقم بكل أريحية وابتسامة عريضة تعلو محياهم، وإكرام ضيف مُستقى من تعاليم ديننا الحنيف ومن قديم الطبائع العُمانية التليدة؛ الأمر الذي يجعل من "ربَّاع" بمثابة سفير عُماني يجوب أرجاء البحر الواسع محملا برائحة القهوة وعبق الزعفران.

 لهذا؛ لم تكن الرحلة على متن سفينة عبدالفتاح الشحي رحلة تقليدية، فعلى عكس سفن الرحلات الكبيرة، يُعتبر التجوُّل في رحلة بحرية على متن "ربَّاع" كفيلا بجلب المتعة والإثارة في أجواء عُمانية رائعة. إنها ليست رحلة فوق الأمواج تستظل فيها بأشعة الشمس، بل هي جولة ممتعة لاستكشاف جمال الطبيعة العُمانية بسخائها وتاريخها، من خلال شرح مفصل لمعالم هذا الوطن الغالي على يد عليم بتاريخيتها، إضافة إلى ما يتيحه لك فريقُ السفينة من إمكانية الاصطياد والسباحة والغطس تحت الماء في المياه الزرقاء النقية والصافية، وكذلك الارتحال واستكشاف الأطلال القديمة.

 لقد نَجَح البحار العُماني العصامي عبدالفتاح الشحي إدارة دفة سفينته التي مَخَر بها عباب البحر، طوال الأعوام الفائتة. معتبرا ذلك توثيقا لحُلمه الأول بامتلاك مثل هذه السفينة منذ زمن بعيد. وعن ذلك الحلم، يقول: لقد كان عِشق البحر يجري في دمي منذ الطفولة، وبدأت عملي بسفينة صغيرة، ذهبت من خلالها للتسويق للشركة داخل وخارج السلطنة وذهبت لأوروبا في العام 2002 للترويج للشركة، وتوسَّعت مع سفينة وسفينتين؛ لذلك خطَّطتُ لجلب سفينة أكبر تتكون من غرف حتى يمكن عمل رحلات طويلة المدى، وفي العام 2013 بدأت ببناء السفينة التي كنت أفكر فيها كحلم.

 وصَمَت الشحي بُرهة، وكأنما يسترجع شريطَ الذكريات.. ليكمل قائلاً: عندما سافرتُ لألمانيا لأول مرة في العام 2002م كانت بمثابة تجربة للاكتشاف، كما كانت بالنسبة لي مرحلة جديدة لاكتساب خبرات جديدة وزيادة لغتي الإنجليزية بالممارسة، ولقد استفدتُ من ملاحظات السيَّاح. ومن العام 2005، بدأت المشاركة في المعارض الدولية في برلين ولندن وفرنسا، وبحكم خبرتي بعملي بالمجال السياحي أنصح كل شاب أن يبدأ كل فكرة عنده وألا يتقاعس ويطور من فكرته يوماً بعد يوم".

 ووسط شغف من الحضور للاستزادة من الحكي، تابع الشحي بقوله: أخذت القرار في العام 2014، بإنشاء سفينة عُمانية تجوب البحار هنا وهناك حاملة الطابع العُماني إلى أقاصي مدن العالم، ولولا الخوف من رفض الوالد، لحملت السفينة سَمْت "صُنع في عُمان"، ولكن شاء الله أن يكون مقر تصنيعها مدينة دُبي؛ واستغرقَ إنشاؤها أربعة عشر شهرا، وبعدها أرسلت للوالد والعائلة أخبرتهم بضرورة المجيء إلى دبي، ولم أُعلمهم بالأمر؛ إلى أن وصلوا وكانت المفاجأة بأن شاهدوا عملاقا عُمانيا يقف على مرسى الميناء شامخا يحمل اسم جدي -عليه رحمة الله- فذرفت الدموع فرحا بهذا المنجز، وكانت أول رحلة للسفينة وعلى متنها الأهل من دبي إلى مسندم ليلا.

 وأردف الشحي وهو يواصل النظر إلى السماء كأنما يستقي ما يقول من أعماق الذاكرة: تكفَّلت ببناء السفينة شركتان إحداهما إماراتية والأخرى هندية، وواصل الجميع العمل ليل نهار على التخطيط الذي رسمته لهم، إلى أن مخرت "ربَّاع" عباب البحر، معرِّفة بعُمان شعبا وطبيعة وكل شيء. ولله الحمد فإن النجاح الذي حققته "ربَّاع" دفعني للتفكير بل والبدء الفعلي في الترتيب لسفينة أخرى، إلا أننا لم نستقر بعد على الاسم الذي سنطلقه عليها هل هو "الجوهرة" أو "روباتو"، رغم أنني أميل للاسم الأول بعض الشيء.

 ونظرًا لأن الوقت كان يمر دون أن يشعر جميع من كانوا على متن السفينة، فقد أخذنا الشحي إلى حيث عالم المخاطر التي واجهته في رحلاته، حيث قال وهو يناولنا أكواب القهوة العُمانية والشاي بماء الورد والقرنفل: على الرغم من ان الصعوبات التي واجهناها أثقلت خبرتي إلا أنني لا أحب تذكرها، وكل ما يسيطر على تفكيري هو أن الإيمان والصبر سلاحين وحيدين لمن يقود البحار.. فلولاهما ما استطعت أن أدير دفة سفينتي وتحقيق أهداف أسفاري التجارية، والتغلب على الصعوبات والمخاطر التي واجهتها من تدهور في الحالة المناخية أو نتيجة بعض الأخطاء البشرية الواردة والتي ولله الحمد لم تسجل أية خسائر طول سنوات عملي.

 وحينما صعدنا مُجدَّدا إلى حيث قمرة القيادة بعد استراحتنا الخفيفة، شرح لنا الشحي كيفية عمل الأجهزة الموجودة.. إلا أنه عند حديثه عن الفارق بين القيادة "اليدوية" و"الأتوماتيك"، بدا وكأنه تذكر شيئا؛ فأخذ يقول: إنَّ صورة طبقات الأمواج التي تعلو إحداها الأخرى تثير الدهشة. والمظهر المعقد للأمواج على سطح البحر معروف تمامًا للبحارة وصيادي الأسماك. وتزداد سرعة الأمواج في المياه العميقة مع ازدياد طول الموجة؛ بحيث تتحرك الأمواج الطويلة بسرعة أكبر من الأمواج القصيرة، وهنا قد نستغى عن القيادة اليدوية ونبدأ في استخدام الجهاز "الأوتوماتيكي" الذي يضبط توازن السفينة. كما ان السفينة مزودة بكاميرات مراقبة في كافة أرجائها، لتوفير الأمان للسائحين، ومراقبة جودة الخدمات المقدمة لهم من قبل طاقم العمل.

 وبعدها، نزلنا إلى الطابق الأول من السفينة، وانشغل الجميع بالتقاط الصور التذكارية تأريخا لتلك الزيارة المثرية.. إلى أن نظر قائد الفريق إلى ساعته التي كانت تشير إلى الرابعة والنصف عصرا، فأعطانا الإشارة إيذانا بانتهاء الجولة، فلملم الجميع أشياءه وبدأ في تويدع طاقم السفينة، والخروج بثِقَل من المرسى وكأنهم لا يرغبون في المغادرة.

 ومما يجدر ذكره في هكذا سياق، أنَّ الرُّبان عبدالفتاح بن أحمد ربَّاع الشحي صاحب مشروع "مغامرات بحر مسندم للسياحة"، شخصية عصامية بدأ رحلته في عالم التجارة والأعمال من الصِّفر، وكان ذلك في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وعمل من أجل بناء شركة سياحية تعتمد اعتمادا كاملا على الكوادر الوطنية العمانية في الدرجة الأولى من أجل رفع مستوى الشركة من ناحية الجودة في تقديم الخدمات للسائح من داخل وخارج السلطنة، وهي نموذج رائع لمشاريع الاستثمار السياحي.

 ولشركة "مغامرات بحر مسندم" عدة مشاركات في معارض محلية وخليجية ودولية تهدف لاستقطاب أفواج سياحية مهتمة بمعرفة تاريخ وجغرافية المنطقة، وكذلك استقطاب علماء جيولوجيين وجغرافيين لمعرفة ودراسة التاريخ الجغرافي لمحافظة مسندم؛ بما تمتاز به من الأخوار الطبيعية الخلابة الجميلة. ولهذا، يُعدُّ الشحي أنموذجا لرواد الأعمال الذين رأوا الإمكانيات السياحية الهائلة التي تتمتع بها محافظة مسندم. فبدأ هذا المشروع بجهد ذاتي، ليكتب اسمه اليوم بأحرف من ذهب بين أكثر الشخصيات نشاطاً في التعريف بمسندم لزوارها ومستكشفيها.

 وتقديرًا منها لمثل هكذا قامات إبداعية، تبذل الغالي والنفيس من أجل الترويج للسلطنة ومقوماتها سياحيًّا كمساهمة في رد الجميل إلى هذا الوطن المعطاء؛ فقد منحت "الرُّؤية" جائزتها الاقتصادية عن الفئة الخاصة للعام 2016، للربان عبدالفتاح بن أحمد الشحي عن مشروعه "مغامرات بحر مسندم"، وذلك في حفل تكريم الفائزين بالنسخة الخامسة للعام الحالي، برعاية معالي أحمد بن ناصر المحرزي وزير السياحة.

 

تعليق عبر الفيس بوك