كيف نضع بلادنا.. على المسارات التنموية الجديدة؟

د.عبدالله باحجاج

جاءت فكرة عنوان المقال استلهامًا من نقاشات نخبوية في أحد مواقع التواصل الاجتماعي، يحمل اسم، ظفار للإبداع الفكري، وهو قناة حوارية فكرية تمارس التجرد في طروحاتها، وتناقش قضايا وشؤونا وطنية وكذلك محلية من منظور وطني، استلهمته تعقيبًا على الندوة التي عقدت أمس الأول عن اتجاهات الاستثمار في وقت الأزمات، والتي شاركت فيها شخصيّات عالمية لها وزنها؛ لكن لها اتجاهاتها السياسية والاقتصادية التي تخدم النظام النيوليبيرالي العالمي الجديد، الذي يعد أهم أذرعه المالية الصندوق والبنك الدوليان، من هنا، جاءتنا تلك الفكرة التي يختزلها العنوان، كرؤية حاكمة لاتجاهاتنا الوطنية المنفتحة الآن نحو مرئيات خارجية لمواجهة تدني أسعار النفط، فهل تصلح لبلد كسلطنة عمان؟ وهل مجتمعها مُهيأ لها؟

بلادنا مثل بقية الدول الخليجية الأخرى، قاومت كثيرًا تطبيق كل الوصفات الجاهزة للصندوق والبنك الدوليين لدواع اجتماعية ووطنية، وأيّة محاولة للتطبيق الآن، ينبغي أن تضمن عدم المساس بالدواعي نفسها، لماذا؟ لأنّ أسباب الرفض لا تزال قائمة؛ ولأنّ الآثار السلبية للوصفات سوف تمس بنيتنا الاجتماعية كثيرا، وقد رأينا تجارب عربية كثيرة سبقت بلادنا والخليج في تطبيق الوصفات، كيف كانت آثارها السلبية على مجتمعاتها، بعدم إدراجها البعد الاجتماعي مع البعد الاقتصادي في منظومة متكاملة لتحقيق التنمية المتوازنة بشقيها الاقتصادي والاجتماعي، وكل من تتبع بعض تجارب الدول العربية في تطبيق وصفات تلك المؤسسات، فسوف يلاحظ أنّها قد أحدثت تناقضا سافرا في المسارات والنتائج بين البعدين الاقتصادي والاجتماعي للتنمية، وذلك لاختلاف الجوهرين، فجوهر الوصفات الاقتصادية إطلاق قوى السوق وسيادة مبدأ البقاء للأصلح في ضوء حرية المنافسة وتقليص دور الدولة، وحتى هذه المنافسة تتحول إلى احتكار. بينما جوهر التنمية الاجتماعية التكافل والتضامن وحماية الطبقات الأضعف في المجتمع، فهل سيكون بمقدورنا أن نحقق ما عجزت عنه الدول التي سلمت واستسلمت لوصفات البنك والصندوق الدوليين؛ أي إدراج البعدين الاجتماعي والاقتصادي في منظومة التنمية المتكاملة والمتوازنة؟ هذا هو التحدي الكبير الذي يلقي بظلاله الآن على مسيرتنا التنموية في ظل الأزمة النفطية الراهنة، والخوف الذي يلوّح به خبراء الوصفات من أجل التأثير على دول الخليج لابتلاع المزيد من ثرواتها، والبعد الاجتماعي هنا يشكل شغلنا الشاغل، لأننا نعلم موقعه التاريخي والمعاصر في الدولة العمانية، ولابد أن تشعر به كل دوائر صناعة القرار، فحمولته على الدولة ثقيلة، ومن ثمّ الاعتداد به لابد يكون في مستوى هذه الحمولة السياسية، كما أنّ الدولة/ السلطة السياسية/ لم تتخل عن المجتمع طوال العقود الماضية، فكيف ستتخلى عنه في الأزمات؟ وهل تتوفر لدينا الآن مؤسسات المجتمع المدني الوطنية والفعالة والمستقلة حتى نراهن على دورها - كما في الغرب - بل هي تشهد الآن اختراقات داخلية وخارجية، فكيف نتأمل واقعها لو لم نحصن مؤسسات المجتمع المدني من الاختراقات.. وجعلناها معولمة من خلال وصفات الصندوق والبنك الدوليين؟ ومن المعلوم أنّ لكل سلطة سياسية واقعها الاجتماعي الذي تستمد منه شرعيتها، فكيف سيكون هذا الواقع لبلادنا إذا ما رفعت الدولة دعمها عن المجتمع؟ فالوصفات لو طبقت كما هي، فستفكك السلطة الاجتماعية، فهل ينبغي تطبيق الوصفات كما يفرضها الخارج أم موءامتها واختيار ما يناسب بيئتنا العمانية؟ ومهما يكن، فالدولة في بلادنا والخليج كذلك، لا تزال عليها مسؤولية مهام وأدوار كثيرة ومتعددة، اجتماعية وثقافية وسياسية وحتى اقتصادية، ومن ثم لا يمكن أن يكون هناك انسجام بين المفهومين لدور الدولة في الغرب والخليج خاصة وعالمنا الثالث عامة، وبالتالي، فإن أية عملية إصلاحية نستوردها من الخارج لابد من التأكد من مدى مواءمتها للبيئة المحلية، لذلك ينتابنا القلق من محاور تلك الندوة التي شارك فيها مدير سابق للبنك الدولي، ومحاورها هي الوصفات نفسها لتلك المؤسستين الدولتين اللتين تضغطان على الدول من أجل تطبيقها، والآن تستغلان الظرفيّة المالية للخليج لفرضها، وهذه الصفات هي 1- تقليص الإنفاق الحكومي، ويكون دائما على حساب المجتمع 2- تخصيص الأموال الحكومية والخدمات، لكن يكون لصالح من؟ مجموعة من المنتفعين داخل كل دولة يرتبطون بمكانيزمات مالية واقتصادية عالمية بصورة مباشرة أم غير مباشرة 3 -التوسع في الضرائب؛ وغالبا ما تتحملها الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ونتذكر، وكيف لنا أن ننسى عهد الفريق الاقتصادي السابق، عندما أراد تطبيق الضريبة المباشرة في بلادنا، استدعى مجموعة من الكتاب، وقد كنا من بينهم إلى مسقط، لكي نروّج مسبقا لهذه الضريبة، وقد تفاجأ بموقفنا آنذاك، برفض هذه الضريبة شكلا ومضمونا، لخطورتها الاجتماعية، وقد كتبنا عنها مقالين بيّنا فيهما الأسباب الرافضة للتطبيق، واعتبرناها من الخطوط الحمراء، وقد كانت هذه الضريبة إحدى وصفات البنك وصندوق النقد الدوليين، فكيف وافق الفريق الاقتصادي السابق على هذه الضريبة؟ هذا ما يجعلنا نتخوّف على الحاضر في ظل الأزمة النفطية الضاغطة، 4- رفع الدعم الحكومي، وكيف سيصمد أي مجتمع عربي إسلامي دون الدعم الحكومي للكهرباء والماء وبعض الحقوق الأساسية؟ 5 - إعطاء دور أكبر للقطاع الخاص في العملية التنموية، وأي قطاع خاص المقصود هنا، إنّها الشركات الكبرى عابرة الحدود، فكيف سيبدو مشهدنا الوطني في ظل هذا العبور الدولي وبعد رفع الدعم الحكومي عن المجتمع والصناعات الوطنية وبعد تقليص حجم الإنفاق الحكومي على التعليم والصحة مثلا؟

التفكير في تلك التساؤلات، واجتراح الأجوبة عنها مسالة حتمية، وهي ليست حكرا على دوائر صناعة القرار، وإنما كذلك للنخب؛ حتى يساهم الكل في إثراء نقاشات المرحلة الراهنة حتى لا تشكل مفترقا لمسارنا التنموي، وإنّما استمرارية لتعزيزه من منظور البحث عن مصادر بديلة، وهي فعلا موجودة، بعضها تستغرق مدى زمنيا متوسطا وبعضها طويل، لكنها تحتاج فعلا لتخطيط سليم، وتنفيذ أمين - مقولة سماحة المفتي - لو كان هذا النوع من التخطيط والتنفيذ موجودان، هل كان الفشل سيكون ملازما للاستراتيجية التنموية 2020 في مجال التنوع الاقتصادي، هذا ما ينقص بلادنا، وهذا ما ينبغي الاشتغال عليه أولا، وحتى عملية الاصلاحات الاقتصادية بأية وصفات لن نخشى من تطبيقاتها، لأنّنا سنكون على يقين بأن لدينا أطرا وكوادر فكريّة في التخطيط عالية الكفاءة والوعي الوطني، وأخرى مماثلة في التنفيذ، لن تنتج لبلادنا سوى قصة تنموية وطنية تستوعب مصالح الكل، وتحتوي البعدين الاقتصادي والاجتماعي.. رغم انفتاحها الخارجي، فالحديث عن خمسة قطاعات بديلة أو تنمية المناطق سابق لأوانه دون إيجاد التخطيط السليم والتنفيذ الأمين، ودونهما ستتكرر معنا تجربة رؤية 2020.. إلخ.. وللموضوع تتمة.

تعليق عبر الفيس بوك