طرابيشي في واقع آخر (2)

ناصر الكندي

تناول المقال السابق الواقع الذي ينطلق منه طرابيشي في مشروعه؛ إذ ينطلق من وعي ماركسي وفرويدي ومعرفي. بخصوص الوعي الماركسي، فإن الواقع الحالي هو واقع مختلف كثيرا إن لم يكن كليًّا عن الواقع الذي يدور حوله طرابيشي؛ فالواقع الحالي لا يعرف ذلك الصراع الطبقي القديم بين السيّد والعبد والعامل ورب العمل، وهذا ما ذكره "ماركوزه" في كتابه الذي ترجمه طرابيشي "الإنسان ذو البعد الواحد"؛ إذ ينفي وجود تلك المرحلة التي بها بعدان أي طبقتان، كما أن صراع الكتلتين الشيوعية والراسمالية انتهت منذ زمن قريب بانتصار الأخيرة بعد أن استفرغت الأولى كل طاقاتها وانتهى العالم بقطب واحد. وأن الطبقات الاجتماعية في الوطن العربي ليست متمايزة تمايزا واضحا، فهي كما يسميها عالم الاجتماع العربي حليم بركات بأنها "فسيفساء" طبقية، وهي صارت طبقة واحدة منذ أن انقلب المتوكل على المعتزلة مؤيدا السلفية بذلك كما ذكر طرابيشي في "النشأة المستأنفة" بأن الملوك صاروا على دين شعوبهم بدلا من أن يكون الشعوب على دين ملوكهم، وهي طبقة واحدة لأن هيكلها الديني ليس هيكلا واضحا مثل المسيحية كما يقول أمين معلوف في "اختلال العالم" بل هي أشبه ما تكون تحت قبة مسجد كبير! وفوق كل ذلك ليس العالم العربي بمعزل عن العالم الخارجي لكي يعيش تناقضاته الطبقية بهدوء، ففي آخر مقال لطرابيشي بعنوان "ست محطات من حياتي" أعلن شلله عن الكتابة بسبب الواقع المؤلم في بلده، وانتباهه إلى دور العامل الخارجي في تأجيج الفتنة وتمويل الحركات المتطرّفة.

أما بخصوص الانطلاق من الفرويدية، فقد دخل الواقع منعطفا جديدا جعل من الواقع نفسه منفصلا عن الذات الإنسانية، فالإنسان صار مهيمنا عليه من قبل واقع جديد فرّغه من محتواه، وربما تنبّه إلى ذلك روائيون كبار مثل "كافكا" و"كونديرا" ومن المفكرين "حنّه ارندت" في مقالتها "تفاهة الشر" و"فوكو" في نظرية "الخطاب"، إذ ينطلق هؤلاء من فكرة أن النظام المؤسساتي الخطابي جعل من الإنسان مجرد رقم أو نكرة ولا يمكن أن يكون لحرية الإنسان أي معنى خلاله. ولهذا فالفرويدية لا تستطيع، إلى حد ما، التعاطي مع هذا التشوّه الجديد للذات خاصة إذا كان رغما عنها، بل قام العديد من الفلاسفة ومنهم "سلافوي جيجك" بالدعوة إلى إلغاء الذات أو الأنا العليا من أساسها لأنها صارت تُسلّع أخلاقيا في السوق مثلما هو الحال في تأثير السياسة على حقوق الإنسان والبيئة وتستخدم كغطاء لجرائم حرب مضادة وذلك خدمة لأجندة رأسمالية خلفها. وبالنسبة للجانب المعرفي فقد أقرّ طرابيشي في مقالته "الفلسفة المستحيلة" بأن الفلسفة حاليا في أزمة مع العلم أو أنها صارت عالةً عليه، فالعقل الفولتيري ربما هو بالفعل أقرب نموذج للإصلاح ضد الفكر الديني كما يتجه إلى ذلك أيضا "هاشم صالح"، إلا أن هذا العقل يفترض ثباتا في مبادئه في حين أن هذه المبادئ اهتزّت علميّا و تم تذويبها في النظام الرأسمالي الذي وضع العقل في سجن المؤسسة، أو كما ذكر طرابيشي في "نظرية العقل" أن العقل في العصر الحديث صار يدور حول الأشياء وليست الأشياء تدور حول العقل!. بل أن العقل تحول ذاته إلى أيديولوجيا فصار العقل نفسه يحتاج الى علمنة ! وكذلك هذا العقل لا يرى أمامه سلطة دينية واضحة ليتمرّد عليها لانعدام وجود طبقة دينية متمايزة، وحتى اذا تكشفت له ظواهر هذه الطبقة فهي ليست واحدة كما كان هو الحال في أوروبا عندما كانت السلطة في يد الكاثوليكية التي لم تكن تدين أوروبا إلاّ بها، فالواقع هنا ومنذ البدايات كان الانشقاق عميقا بين المذاهب والطوائف الإسلامية إذ أنه لو حصل فصل بين العقل والدين في دولة معينة كإيران مثلا فإنه ليس بالضرورة أن تتأثر باقي الدول والطوائف الأخرى!

... إنَّ اغتراب المفكرين مثل "طرابيشي" و"هاشم صالح" و"أركون" و"غادة السمان" و"فراس السواح" و" إدوارد سعيد" وغيرهم عن أوطانهم دليل على أن العالم يتغيّر خالقا واقعا مختلفا وبالضرورة "مثقفا جديدا"، فالأنين على الأوطان المندثرة قد يكون مرضا يقتل أكثر منه وطنية في ظل هذه الظروف، وأبرز مثال على هذا ماقالته الشاعرة التشيكية "فيرا لينهارتوفا" حين سألت عن واجب رجوعها أخلاقيا إلى التشيك بعد تحريرها: الكاتب إنسان حر بالدرجة الأولى، وضرورة الحفاظ على استقلاليته ضد كل العوائق يعد أولوية الأولويات، أنا ما عدت أتحدث الآن عن تلك العوائق التافهة التي كانت السلطة المستبدة تسعى إلى فرضها، وإنما عن القيود المتعمّدة والتي يصعب التخلص منها التي يتم استعمالها لاستدرار مشاعر الواجب اتجاه الوطن. وتضيف: إنني أتعاطف مع الرُحّل، فإنني لا أشعر إني امتلك روح إنسان مقيم، كما أن لي الحق في أن أقول أيضا بأن منفاي قد أتى ليحقق ماشكل لي أمنيتي الغالية: أن أعيش في مكان آخر.

وليس المقصود أعلاه أن يتخلّى المثقف عن دوره في كشف تزييف الوعي الذي تمارسه السلطة والمثقف الحكومي الحارس لها، وإنما أن يدرك المثقف الأبعاد الجديدة للواقع وموقعه منه، فالمثقف "الطبقي والتاريخي" قد ولّى عهده منذ أكثر من قرن، وهذا ما يرفضه طرابيشي حين يعلّق على فوكو في "إشكاليات العقل العربي" حين يقول: معلوم أن فوكو يمتنع عن إصدار حكم قيمة على التحولات الإبستمية إلى حد ينكر معه وجود تقدم للعقل البشري بين عصر وآخر. فعنده أن لكل عصر معقوليته، بدون أن تكون متقدمة بالضرورة على معقولية العصر السابق لها. وواقعة إنكار تقدم العقل هذه هي نقطة خلافية لنا مع الابستيمولوجيا الفوكوية.

ولهذا؛ تناول إدوار سعيد في "صور المثقف" هذا التحول الجذري للواقع المستدعي لولادة مثقف مختلف إذ يقول: لا أريد أن يساء فهمي، إذ ليس مطلوبا من المثقفين أن يكونوا متذمرين مفتقرين إلى روح الدعابة. وما أبعد هذ الأمر عن الحقيقة مع معارضين مرموقين ونشطين مثل نعوم تشاومسكي أو غور فيدال. فمراقبة شؤون عامة وهي في حالة يرثى لها، بينما المرء خارج السلطة، ليست على الاطلاق شيئا رتيبا، لا يرى إلا لونا واحدا، بل تقتضي ما أسماه فوكو "معرفة واسعة لا تكل" تنقب عن مصادر بديلة، وتخرج الوثائق من ظلمات قبورها، وتحيي مؤلفات في التاريخ نسيت (أو تَقرّر التخلي عنها)، كما تستلزم هذه المراقبة حسّاً كذاك المتوفر عند القادر على تحريك العواطف، وعند العاصي المتمرد، بحيث يستفيد المرء إلى حد بعيد من الفرص النادرة المتاحة للكلام، ويستحوذ على انتباه الجمهور، ويتفوق على منافسيه في سرعة الخاطر والمناظرة. وثمة أمر مقلق على نحو جوهري لدى المثقفين الذين لامناصب لهم يحمونها ولامناطق نفوذ يعززونها ويحرسونها، ولذا فهم يميلون إلى السخرية من الذات ولا يلجأون كثيرا للتباهي، والصراحة تغلب عندهم على المراوغة والمواربة. لكن لامجال لتفادي واقع لا مفر منه، وهو أن مثل هذه الأفكار التي يمثلها المفكرون لن تجعلهم أصدقاء لذوي المراكز الرفيعة ولن تكسبهم الحفاوة والتكريم من الرسميين. نعم إنها لحالة من الوحدانية الموحشة، لكنها دائما أفضل من تحمل الأمور على علاّتها رغبة في مسايرة الجموع.

تعليق عبر الفيس بوك