رُخصة المعلِّم

 

حاتم الطائي

كان عليَّ أنْ أزورَ مدرسة ابنتي لاستقصاء أسباب تراجع مستواها في اللغة الإنجليزية -حسب التقارير الواردة من المدرسة في الأشهر الأخيرة- خاصة وأنَّ معرفتي بمستواها الجيد في اللغة الإنجليزية ترجِّح أنَّ ثمَّة خللًا في تقارير الأداء التي تصلنا.

أُقرُّ هُنا بأنني لا أزور المدرسة إلا نادرًا، وكنت عازمًا التعرُّفَ على المدرسة واستيضاح المعلِّمة حول حقيقة هذا التراجع في المستوى في مادة مُحبَّبة لابنتي.

واستبشرتُ خيراً بداية عندما علمت أنَّ المعلِّمة من الجنسية البريطانية؛ لأنني أرى في ذلك مُحفِّزاً ومشجِّعاً لتعلُّم اللغة من الذين يتحدثونها كلغةٍ أم، استقيتُ ذلك من واقع تجربة التعليم على عهدنا؛ حيث تعلَّمنا اللغة الإنجليزية في المدرسة السعيدية على يدِ مُعلمين بريطانيين لا تزال ذكراهم ماثلة في البال -أذكر منهم: مستر ميلر، ومستر فوستر- لما كانوا يتمتعون به من كفاءة وإتقان في إيصال المادة لطلابهم.

أعود إلى مُعلِّمة ابنتي، جلستُ إليها حسب الموعد المسبق لأستوضح منها أسبابَ تراجع مستوى ابنتي، إلا أنني -وللأسف- أدركتُ منذ الوهلة الأولى أنَّني أمام معلمة لا تُدرك أصولَ المهنة، لا أقول ذلك من باب ادِّعاء المعرفة بخبايا الأمور التربوية التعليمية، ولا إجحافا بحقِّ هذه المعلمة، بل من واقع الملاحظة الآنية التي أبانت لي بجلاء افتقارَ المعلمة للأسلوب الأمثل في التعامل التربوي مع الأطفال؛ حيث انهمكتْ في لَوْم الطفلة الصغيرة، وتحميلها مسؤولية التراجع في المستوى التحصيلي.

وانتابتني الدهشة عندما ردَّت بسلبية زائدة على سؤالي العفوي عن سيرتها الذاتية وخبرتها في التعليم؛ حيث قالت: "لا يحق لك أن تسألني هذا السؤال!".

واستغربتُ أكثر من ردة فعلها؛ لأنَّ هذا السؤال طبيعي ومنطقي؛ فكما هو معلوم فإنه في المدارس الأوروبية والأمريكية، يُتاح للجميع -خاصة أولياء الأمور- الاطلاعَ على السِّير الذاتية للمعلمين بل والإداريين، وهي منشورة في المواقع الإلكترونية لتلك المدارس، مرفقة بالخبرات ورخصة التعليم.

خرجتُ من الاجتماع وأنا اقول لنفسي: "هل فعلاً يكفي أن يكون مُعلِّم اللغة الإنجليزية من الجنسية البريطانية ليكون ناجحًا في تدريسها وتعليمها للصغار بالصورة المثلى في وقتنا الراهن؟".

يبدو أنَّ بعضَ المدارس الخاصة في بلادنا ترى ذلك؛ وهو الأمر الذى ينعكسُ سلبا على أداء طلابنا، خاصة وأنَّ الكثيرَ من المدارس الخاصة تبحث عن تخفيض التكلفة مع غياب نظام رخصة المعلِّم في بلادنا.

وبالحديث عن رخصة المعلم، أرى أنَّها أصبحت ضرورية إن كُنَّا عازمين على تطوير العملية التعليمية؛ باعتبار المعلم هو الرُّكن الأساسي في إنجاحها والارتقاء بمخرجاتها. وقد يستغربُ البعضُ الدعوة لإصدار رخص للمعلمين في السلطنة لمزاولة هذه المهنة الرسالية، وأقول ردًّا على هؤلاء إنه وإذا كان يتحتَّم على العديد من أرباب المهن كالمهندسين والمحامين والأطباء الحصول على هذه الرخص؛ فمن باب أولى حصول المعلم عليها؛ حيث لا يكفي مُجرَّد الحصول على المؤهِّل الأكاديمي للانخراط في هذه المهنة التي تُعنى ببناء الإنسان الذي يُعدُّ هدف التنمية وأساسها. ومن المؤكد أنَّه ليس كل من يحمل شهادة أكاديمية مُؤهَّلا لأن يكون مُعلِّما؛ إذ لابد أن يصاحب ذلك معايير تؤهِّله لأن يكون مُعلِّماً ناجحاً، وأن يخضع لدورات وورش في التربية والاتصال، تُمكِّنه من التعامل مع الطلاب على حسب فئاتهم العمرية.

ولا شكَّ أنَّ المتطلبات التأهيلية لمعلِّم الروضة والأساسي غير تلك التي ينبغي أن يتسلح بها من يُعلِّم طلابَ المراحل المتقدمة...وهكذا.

... إنَّ رُخصة التعليم ليست بالشيء الجديد، بل على العكس؛ فهي مُطبَّقة في العديد من دول العالم، التي تَرَى في التعليم أساسَ التطور، وعليه قامت نهضتها، بل تُعِد للدخول إلى المستقبل عبر بوابة التعليم ولا شيء غيرها.

وفي السَّلطنة، أقترح أن يبدأ تطبيق الرُّخصة بشكل تدريجي: من المدارس الخاصة التي انتشرت في الآونة الأخيرة بصورة كبيرة. وبعد تعميمها على التعليم الخاص، يُتم التوجه لتطبيقها في المدارس الحكومية؛ على أن يكون ذلك جزءًا من إستراتيجية شاملة لتطوير التعليم والوصول به إلى الجودة المنشودة. ورُبَّما علينا الاسترشاد في هذا الإطار بالعديد من الممارسات الإيجابية في الدول المتقدمة التي كان لها قصب السبق في تطبيق رخصة المعلمين.

ويُمكن لوزارة التربية والتعليم التنسيق في هذا الصدد مع الجامعات وكليات التربية؛ بمدِّها بالمواصفات والمؤهلات المطلوبة والتي تُسهِّل حصول الخريج على الرخصة للانخراط في سلك التدريس بكفاءة واقتدار.

ولا شكَّ أنَّ تطبيق رخصة المعلم سيُسهم في تحفيز المعلمين للارتقاء بأدائهم عبر التطوير المستمر لقدراتهم من خلال الورش والدورات التدريبية التي تُساعدهم على الإلمام بكل ما هو جديد في حقل التربية والتعليم، الذي يشهد تطوُّرات مُتسارعة في هذا العصر؛ حيث نعيش تحديات كثيرة فرضتها السطوة الإلكترونية وعالم الإنترنت، وألقت بظلالها على النظام التعليمي ليُصبح الهاتف المحمول أحد المصادر العامَّة للمعلومات المتوفرة والمتاحة للجميع، وقد فرض هذا التطور التقني علاقة جديدة بين المعلم والطالب، وهي مُختلفة عمَّا كانت عليه قبل سنوات.

نعم.. تُتيح رخصة المعلم مُلاحقة التطورات في الحقول المعرفية ذات العلاقة بالتربية والتعليم؛ باعتبار أنَّ حاملها يخضع لامتحانات دورية بغية تجديدها، ويحتم ذلك إلمامه بالجديد في مجال المادة أو المواد التي يدرسها.

ونعوِّل كثيرًا على التعليم من مُنطلق القناعة بأنَّه المحرِّك الأساسي للتطوُّر، والذي يكفل تجاوز كافة المنعطفات الحرجة في مسيرة الشعوب والأمم نحو التقدُّم الحضاري.