طرابيشي، في واقع آخر (1)

ناصر الكندي

منذ تسريبات ويكيليكس عام 2013 وتسريبات بنما الآن، يشهد العالم واقعا جديدا جمع العديد من أشراره وأخياره من الشخصيات اللامعة المعروفة في سلّة الاشتباه إن لم يكن الاتهام، فكل من كان نموذجا للضمير الإنساني والإصلاح كان له نصيب من كعكة الفساد العالمية وكأن هناك قوة أكبر من كل ضمير، فقد كان الوضع في زمن الجهل أكثر أملا واشراقا منه في زمن الكشف، فأصبحت الناس عدو ماتعلم وليست عدو ما تجهل! ومن المعلوم أن الكثير من الفضائع والجرائم في زمن الإعلام الخارق سوف يطمرها النسيان لأن الإعلام هو الحقيقة شئنا ذلك أم أبينا، فالإعلام يستطيع أن يشغل الضمير بأحداث أخرى ليشتته، لينتقل العالم من قضايا فساد ومجازر بشرية إلى الاهتمام بانتخابات دولة عظمى أو قضايا بيئية تناقش بألم في فنادق شاطئية للأثرياء.

في رواية التشيكي ميلان كونديرا "الحياة هي في مكان آخر" يعيد المؤلف صياغة الجملة في آخر الرواية بـ "الحياة في واقع آخر"، وذلك، وعلى عادة كونديرا في التواصل الواعي مع قارئه، لكي يكشف عن واقع جديد مختلف كليا عن الواقع الآفل. فالواقع الآن محكوم بقوانين مختلفة كثيرا عن قوانين القرون السابقة، هذه القوانين التي ذوّبت الحدود بين الطبقات الاجتماعية بخدع الموضة والإعلانات والأعمال الخيرية الزائفة والثقافة الاستهلاكية وخضوع القيم الإنسانية للتسييس والتسليع، فلا يعرف المُستَغل أنه مستَغَل ولايعي أين موقعه في زمن يخطفه عن التأمل ومراجعة ذاكرته التي يغزوها النسيان يوما بعد يوم.

استعير هذا العنوان مع تعديله إلى "طرابيشي في واقع آخر" وذلك لأصف مصير مفكر كبير في واقع صار يلفظه بالضرورة. فجورج طرابيشي، وهو ابن الرهانات الخاسرة على حد وصفه لنفسه في إحدى مقالاته، كان مدركا أنّ ضوء الفجر في ليل الواقع العربي الراهن بعيد إن لم يكن مستحيلا، وإدراكه نابع من قراءته للانتلجنسيا (المثقفون) العربية ونكوصها للتراث على حساب العقل، وكذلك فشل العديد من المشاريع السياسية العربية مثل القومية، وإنكاره للديموقراطية باعتبار أن صندوق الاقتراع ليس حلاًّ خاصة إذا كان المصوتون الأكبر له ذو توجهات سلفية أو ايديولوجية. ولأن الانسان لا يملك سوى الأمل لكي يستمر في الحياة، فقد انبرى لمشروعه الأكبر "نقد نقد العقل العربي" وذلك ليطهّر التراث من المغالطات ويعيد فتح أبوابه من جديد معلنا مشروعه الإصلاحي الأخير بعبارته المشهورة: ضرورة ظهور مارتن لوثر مسلم لتحرير النص من النص أولا ومن ثم فولتير عربي لتحرير العقل من النص.

ولكن، هل هذا الواقع بالفعل هو واقع المشاريع؟ وهل المثقف بدوره الاحتجاجي التاريخي المعروف مازال موجودا؟ ربما الإجابة على هذه الاسئلة ستكون من خلال طرابيشي ولو أنه لم يُشِرْ إليها بطريقة مباشرة، فوجود طرابيشي في فرنسا مثلا يعبّر بطريقة صارخة عن لفظ الأنظمة السياسية لهذا النوع من المثقفين الذي يطالبون بإلغاء الأنظمة الدكتاتورية، وكذلك وجوده في فرنسا يعبّر عن عدم احتياج الشعوب العربية لهذا الفكر الذي يوصف بالعمالة والعلمنة والتغريب، وأيضا وجوده في فرنسا يعبر عن رفض الانتلجنسيا العربية لطرابيشي بسبب موقفه من التراث الذي أراد أن يراه بكل هناته وإيجابياته دون خلفية ايديولوجية، ومع هذه الأسباب أضيف سببا آخر لوجود طرابيشي بفرنسا إلى وفاته وهو أن الواقع أصبح في مكان آخر لا ينتمي إلى واقع طرابيشي نفسه!

إن الواقع الذي يريد طرابيشي أن يعيش به هو واقع ينتمي إلى زمن التمايزات الطبقية والبطء الحياتي والمعاني الأخلاقية الإنسانية التي كانت في زمن التنوير، هذا الواقع الذي يمكن للمثقف أن يكون له وجود فيه إذ مازال كل شيء واضحا ومجسّدا أمامه لكي يستطيع أن يتكلم عنه ويدعو إلى تجاوزه، فطرابيشي بخلفيته "الماركسية" كان معوّلا على فكرة الوعي الطبقي لكي يحدّد النظام الذي يريد أن يثور عليه، وكان بوعيه "الفرويدي" ينطلق من نفس الإنسان وتشوّهاتها ليحدّد أزمتها مع الواقع وعدم وضوحه أمامها. وكذلك كان بوعيه "المعرفي" يريد أن يحدد نقطة الانطلاق بالعقل أمام التراث الديني إلى مرحلة قادمة وهي العلمنة. ولكن هل هذا الواقع الذي ينطلق منه طرابيشي مازال موجودا؟

تعليق عبر الفيس بوك