هيكل .. قرن من الكتابة

- علاقة وثيقة ربطت هيكل مع عبد الناصر منذ قيام ثورة 23 يوليو

- اشتهر الأستاذ بتحري الدقة في معلومات ومصادره الواسعة العليمة

- يمكن اعتبار هيكل بأنّه من خزنة أسرار الكبار وأرشيفه زاخر بالوثائق النادرة

- ظل بارزًا ومحتشدًا بقوة لم تهزمه الشيخوخة حتى رحل عن عالمنا

أحمد الفلاحي

في شبابنا الأول يوم كانت أعمارنا عند الرابعة عشرة أو قبلها بقليل في النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين الماضي بدأ تعرفنا على الإذاعات والصحف وكانت إذاعة "صوت العرب" وقتها هي الأولى بين الإذاعات لا يكاد يوجد عربي لم يسمعها ويتابع برامجها فهي مدرسة تعلم الإنسان العربي منها السياسة والثقافة والأدب وكانت مهوى أفئدة العرب، أينما كانوا بما تمثله من دعوات للتحرر والانطلاق نحو المستقبل والغد المشرق المبشر بالحياة الكريمة. وكانت تعليقات مدير إذاعة "صوت العرب" الأستاذ أحمد سعيد يتردد صداها العالي في كل بقعة من بقاع الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه. وفي مساء كل جمعة يحرص معظم العرب ألا تفوتهم مقالة الأستاذ هيكل الأسبوعية في جريدة "الأهرام" القاهرية الحاملة لعنوان ثابت لافت هو "بصراحة" وكان "صوت العرب" يقوم ببثها ذلك المساء خدمة للمستمع العربي الذي يتعسّر عليه الوصول للأهرام وقراءة ما فيها لأسباب متعددة أبرزها صعوبة وسائل النقل فإن وصلت إلى بعض العواصم في اليوم الثاني أو الثالث لصدورها فوصولها للأرياف والمناطق الأبعد يكون بعد فترة أطول وفي الأكثر لا تصل ناهيك أن بلدانا عربية كانت محرومة منها ومحظور دخولها إليها ويحل العقاب بمن وجدت لديه لهذا يترقب الناس تلك المقالة مقروءة في "صوت العرب".

وأهل العاصمة اللبنانية - بيروت - هم وحدهم المحظوظون بعد أهل مصر بقراءة مقالة الأستاذ هيكل في يومها أو في الذي يليه، وذلك أنّ الصحفي اللبناني الكبير الأستاذ سعيد فريحة كان ينشرها في جريدته "الأنوار" البيروتية بالتزامن مع جريدة "الأهرام" القاهرية، ولست أدري كيف تصله المقالة هل بالطائرة اليومية الآتية لبيروت من القاهرة أم يتم إملاؤها بالتلفون؟

في تلك الفترة تعلمنا ممن هو أكبر منا سنا المداومة على الإنصات مساء كل جمعة لتلك المقالة المعبرة. وكبرنا وكبر اهتمامنا بالأستاذ هيكل وتوسعت متابعتنا لما يكتبه أو ما يكتب عنه.

صوت عبدالناصر

وكان قد صار في ذلك الزمن بمثابة الصوت المعبر عن عبد الناصر والمبشّر بأفكاره وتوضيح رؤيته واتجاهاته. ومضى الزمن وأخذنا معه وفي كل سنة يزداد اقترابنا من كتابات هذا الكاتب البارز المليئة بالمعلومات الدقيقة والأخبار المدهشة والتحليلات العميقة للأحداث، وحركتها وتوقع ما سوف تجيء به الأيام من مخفيّاتها. هكذا صرنا من المتعلقين به وبما يكتبه ويقوله ومعنا جمع غفير من العرب. وجاءت نتيجة حرب 1967م صادمة ومخيبة للآمال وتعلقت الأنظار والأسماع بما سيقوله هيكل لكشف أسباب تلك الملمة الصاعقة، وكان أول ما قاله إنّها "نكسة" سوف يتم تجاوزها وسكنت نفوس العرب المضطربة لمقولته تلك، وبالفعل لم يمض طويل وقت حتى بدأت حرب الاستنزاف وتم تدمير سفينة العدو الحربية "إيلات" بعد نحو أسبوعين فقط من انتهاء المعارك وتواصلت النجاحات المنبئة عن الإصرار والتصدي، وكان الأستاذ هيكل هو المبين والكاشف لتلك الحرب المؤشرة للعرب بأنّ النصر في طريقه إليهم لإزالة "آثار العدوان" كما هي عبارته بالتحديد.

وفي تلك الفترة الصعبة المشتعلة حدث الزلزال الكبير برحيل عبد الناصر إلى ربه واجتهد الأستاذ هيكل بكل استطاعته لدعم الاستمرار في الإعداد للمعركة الكبيرة بشتى الوسائل. وانطلقت حرب أكتوبر العظيمة التي أذهلت العالم عام 1973م واعترض هيكل على وقف القتال فجأة قبل اكتمال المرحلة الأولى كما في الخطة الأساسيّة للحرب وصار ما صار من تصاعد الخلاف بينه وبين الرئيس السادات وفي ذروته تمّ إبعاده من "الأهرام" وهنا بدأت مرحلة جديدة في حياته زادت من تألقه وسطوع نجمه بعكس ما كان يراد له وكبر تأزم الأمور إلى أن وصل إلى الإلقاء به في أسوار السجن، وقبلها تمّت إحالته إلى المدعي الاشتراكي للتحقيق معه ومن ثمّ جرى اغتيال السادات وأفرج عنه مع من أفرج عنهم بعد ثلاثة أشهر أمضاها في المعتقل دون أن يتراجع عن معارضته الصلح مع العدو معتبرًا هذا الصلح خطيئة كُبرى تمثل الخطر الأعظم على العرب رافضًا بقوة وشدة كل المحاولات أن يمد يده نحو العدو. واستمرت مسيرته كما كانت ثابتا على المبادئ التي ارتضاها لم ينحرف عنها. يكتب ويؤلف ويقول كلمته حتى أصبح الكاتب العربي الوحيد المتفرد في الشهرة الواسعة والمكانة الرفيعة في كل أقطار المعمورة لم يدانه كاتب عربي في ذلك. وترجمت كتبه إلى عشرات اللغات، وجرى تصنيفه ضمن الكتاب الخمسة الأوائل في جميع دنيا العالم.

التجربة الصحفية

وكانت تجربة الأستاذ هيكل الصحفية قد بدأت وهو في طور الشباب الأول من خلال جريدة "الإيجبشن جازيت" إنجليزية اللغة وكانت تصدر في القاهرة موجهة للأجانب المقيمين في مصر وقتها وفيها ظهرت قدراته وتجلت مواهبه في تغطية معركة العلمين بين جيوش الألمان والتحالف المضاد لهم في نهايات الحرب العالمية الثانية، ولكن تلك الجريدة الناطقة بغير العربية لم تتسع لطموحاته لمحدودية انتشارها، فغادرها إلى محمد التابعي ومدرسته الصحفية ذات السطوة عندئذ ومنها إلى الأخوين مصطفى وعلي أمين ومدرسة "أخبار اليوم" الأحدث التي أسساها وفق النموذج الأمريكي غداة عودتهما إلى مصر بعد انتهاء دراستيهما في أمريكا.

ومن تلك المدرسة التي زاد لمعانه فيها إلى مدرسته الصحفيّة الخاصة التي نسجها لنفسه منذ توليه مسؤولية جريدة "الأهرام" حيث انطلق وشق طريقه مرتقيا بجريدته ليجعل منها واحدة من الصحف العشر الأكثر بروزا وتميزا على مستوى الكون كله.

وقد ارتبط الأستاذ هيكل بعلاقة حميمة وثيقة مع الرئيس جمال عبد الناصر منذ قيام ثورة الثالث والعشرين من يوليو وحتى رحيل عبد الناصر وأعطته تلك العلاقة الكثير لا شك وأفادته عظيم الفائدة إذ جعلته في مطبخ صنع القرار ولكنه عند اقترابه من عبد الناصر لم يكن مغمورا بل كان صحفيا متحققا له صلات وثيقة مع أجهزة الحكم الملكي بما في ذلك رؤساء الوزارات وزعماء الأحزاب، وكان نجما ساطعا له حضوره القوي بين النخب ولدى الجهور العريض وكان عبد الناصر نفسه يتابع كتاباته وتحليلاته قبل الثورة، ويمكن القول إنّه بعد الثورة أخذ كثيرًا ولكنّه أعطى كذلك وهذا هو سر العلاقة الحميمة التي ربطته بعبد الناصر وقدمته على كل الرموز الصحفية البارزة يومذاك.

وفي الفترة الناصرية لم تظهر له كتب يمكن الاعتداد بها وإنّما كتيبات كانت تصدر خلال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم نذكر منها "أزمة المثقفين" و"خبايا السويس" و "ما الذي جرى في سوريا" و"نحن وأميركا" و "الاستعمار ولعبة الملك" وكتابه الأول "إيران في بركان" الصادر عام 1951 قبل قيام الثورة، والذي لعلّه كان الأبرز بينها وهو نفسه أهمل تلك الكتب ولم يلتفت لها بالقدر الكافي فيما بعد. وكتبه المهمة لم تخرج للناس إلا بعد وفاة عبد الناصر وأولها كان كتابه "عبد الناصر والعالم" الصادر عام 1971 متضمنًا مراسلات عبد الناصر مع زعماء زمانه وتدفقت كتبه بعد تركه "الأهرام" عام 1974 ليتواصل صدورها وانتشارها وإعادة طباعتها المرات الكثيرة لشدة الإقبال عليها. وبعض كتبه يتناول موضوعا واحدا بذاته وبعضها كأنه طبق يمتليء بالفواكه المتنوعة. كمثل كتاب "أحاديث في آسيا" الذي طوف فيه منطقة شرق وجنوب آسيا من اليابان والصين وفيتنام وكمبوديا والهند وباكستان وبنجلاديش بعد انفصالها، وكذلك كتابه "زيارة جديدة للتاريخ" الذي قرأناه أولا في صفحات الجرائد ثم اقتنيناه بعد صدوره ، وهو كتاب في الحقيقة يجمع خمسة كتب لا رابط بينها سوى أسلوب هيكل ولغته من إيران إلى أسبانيا إلى الهند إلى أمريكا ومثله كتابه "المقالات اليابانية" وفيه التنقل من القذافي إلى عرفات إلى الملك حسين وصدام إلى تركيا والجزائر واليمن و"روسيا الحائرة" و "اليابان الهاربة من دورها".

الدقة في تحري المعلومات

والأستاذ هيكل دقيق في تحري المعلومات التي يكتبها وله مصادره الواسعة العليمة. وهناك من تزعجهم معلوماته فيذهبون للطعن في مصداقيتها بطريقة تلقي الشك وتثير الغبار. ومثال على ذلك ما ظنوا أنّهم أصابوه به في مقتل حين قرأوا ما رواه في كتابه "حرب الخليج" عن المكالمة التي أيقظت الملك فهد من نومه في الساعة الخامسة فجر الثاني من أغسطس فبدأ اتصالاته وهو على سريره في غرفة نومه الخاصة حيث تهكم بعضهم بالتساؤل إن كان هيكل في ساعة الفجر تلك على مقربة من سرير الملك فهد يشاهد بعينيه ويستمع بأذنيه لما يقوله لمن يتحدث إليهم بالهاتف!!

وفات هؤلاء أنّ مصادر هيكل واسعة، ولعلّ تلك المصادر تقلت ما نقلته عن الملك فهد نفسه وهو من روى بلسانه ما وقع تلك اللحظة، ولم يعرف الأستاذ هيكل ذلك المتصل وربما كانت مخابرات الأمريكان المطلعة والمتابعة للحدث الذي هو في نهايته من صنعها وتدبيرها.

كذلك تعرض الأستاذ هيكل للهجوم الشديد بسبب ما كتبه عن مصطفى أمين، والملك حسين، والملك الحسن، والسادات وفي تلك الكتابات كان ناقلا لما تأكد لديه من معلومات تسندها الوثائق وقد اعترف بها الآن بعض كبار رجالات المخابرات الأمريكية في مذكراتهم المنشورة.

جزالة العبارة

والأستاذ هيكل معروف عنه عدم الالتفات لمن يهاجمونه إلا في القليل النادر حين يرى أنّه لا بد من التوضيح. وما أتذكره في هذا الصدد وكنت شاهدًا على الواقعة بنفسي مع كثير أثناء المؤتمر الصحفي الذي أقامته له وزارة الإعلام أثناء زيارته لمسقط عام 1975 حين سأله رئيس تحرير إحدى المجلات العمانية عن سبب عدم رده على من يهاجمونه وأبرزهم يومها صاحب مجلة "الحوادث" اللبنانية الأستاذ سليم اللوزي فكان رده أنّه اعتاد تجاهل من يهاجمه ولو أراد الرد على اللوزي لتم ذلك في بيروت التي كان قادمًا منها. وكان سليم اللوزي قد أصدر وقتها أحد أعداد مجلته "الحوادث" وعلى غلافه صورة هيكل بمناسبة إخراجه من الأهرام وتحت الصورة كتبت عبارة "وسقط ملك الأهرام" وكان خط مجلة "الحوادث" الثابت في ذلك الزمان الهجوم بمناسبة وبغير مناسبة على هيكل وانتقاده بالعناوين البارزة. ومن ردوده النادرة كذلك مقالته "ذاكرة صحفي" وقد نشرها في "الأهرام" في 25/2/1993م متعقبًا فيها ما نشر على لسان الملك الحسن في كتاب صدر بالفرنسية وترجم إلى العربية بعنوان "ذاكرة ملك". ومثله أيضاً رده على تناول فهمي هويدي لموضوع الحرق المتعمّد لبيته الريفي في "بلقاس" ومكتبته هناك قبل أربع سنوات أو ثلاث من وفاته..

وقد عُرف الأستاذ هيكل بلغته البليغة وبجملته المكثفة القوية حين يكتب مما جعلها في أطراف الألسنة لقوة سبكها وجودة صياغتها؛ ومن أمثلتها "نصرخ في السفوح لعل من في القممم يسمعون" و"مراكز القوى" و "زوار الفجر" و "حالة اللاحرب واللاسلم" وغيرها من عبارات تختزل معاني كثيرة في ألفاظ موجزة.

مستودع أسرار الكبار

والأستاذ هيكل يمكن اعتباره من خزنة أسرار الكبار فقد كلفه عبدالناصر بكتابة تاريخ سيرته. وسلمه د. محمود فوزي مخطوطة مذكراته ومعها وصيته بألا تنشر قبل مضي نصف قرن من وفاته وهيكل يقول إنه حينها لن يكون موجودًا في هذه الحياة.

وكان المثل يضرب بما يحتويه أرشيفه من الوثائق النادرة التي تعد بالألوف ويكاد لا يوجد مثلها حتى في أرشيفات الدول.

والمرء يتساءل من أين لهيكل كل هذا الوقت للكتابة والقراءة والسفر واللقاءات والمتابعات والمناسبات الاجتماعية.

تنظيم الوقت

وذلك عائد في المقام الأول لدقته المتناهية في ترتيب وقته وفصله التام بين متطلباته الأسرية الخاصة وحالته داخل بيته وبين العمل الذي لا يأتيه إلا بكامل زيه الرسمي. وبرنامجه اليومي متنوع ومحدد يبدأه بالرياضة في أول الصباح ثم ينطلق فيه من نقطة إلى أختها حتى نهاية المساء، ولا يخلو ذلك البرنامج غالبا من فيلم سينمائي أو حفلة موسيقية أو معرض للفن التشكيلي إضافة إلى القراءة والكتابة واللقاءات وكان من هواة القراءة المتميزين ليس في السياسة وحدها فحسب، ولكن في مختلف الموضوعات وإن اشتكى مرة في إحدى مقابلاته أنّ السياسة "شغلته عن الأدب والرواية" ولكنه ظل بين وقت وآخر على صلة بالأدب، ينتقي منه ويلفت النظر لما يراه الأكثر أهمية كإشادته برواية "الحرب في بر مصر" لصديقه المقرب منه الكاتب يوسف القعيد وكاستعراضه حينما كان يكتب في مجلة "وجهات نظر" رواية "العملية حبرون" وقد قرأها في إحدى زياراته للندن عند صدورها وبسبب مقالته الطويلة تلك سارعت مجلة "الهلال" القاهرية لترجمة الرواية ضمن مشروعها المعروف "روايات الهلال".

ومعظم الناس تعرف محبة الأستاذ هيكل للشعر العربي العمودي، وقد ذكر مرة في لقاء مطول مع جريدة "الخليج" الشارقية في يونيو 1986 أنّه يحفظ عشرة آلاف بيت وذلك يظهر من استشهاداته بأبيات الشعر في كتاباته وفي لقاءاته وأذكر هنا استشهاده في مقالات كتابه "لمصر لا لعبد الناصر" الصادر في أوائل سبعينيات القرن العشرين ببيت للمتنبي يقول:-

وكم ذا بمصر من المضحكات

ولكنه ضحك كالبكا

وكان ذلك البيت من أبيات المتنبي المغمورة والتي لم يكن الناس يقفون معها بل لعلّ الأكثرية وحتى من المهتمين بالمتنبي لم ينتبهوا كثيرًا لذلك البيت إلى أن أحضره الاستاذ هيكل فذاع وشاع وتلقفته الألسن.

ونحو ذلك استشهاده في مقابلة بمحطة "الجزيرة" ببيت لم تكن له شهرة وبروز قبل ذلك وهو:-

لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها

ولكن أحلام الرجال تضيق

وعشرات بل مئات من أبيات الشعر المتميزة يجدها المتابع تجري على لسانه تلقائيا للمتنبي وشوقي وشعراء العربية الآخرين.

هل كتب الأستاذ هيكل مذكراته؟ ذلك تساؤل ما زال يطرح ويتردد ويراوغ هو في الإجابة عنه وعسى أن يكون قد فعل. وهو في أحاديثه وحواراته التلفزيونية والإذاعيّة والصحفية في الوطن العربي أو في خارجه ألم بطرف من بعض سيرته ولكن الأكثر والأهم ما زال تحت الحجب فهل هي مكتوبة وقد أوصى بعدم نشرها إلا بعد زمن من وفاته يقل أو يقصر مقتفيا في ذلك خطى صديقه د. محمود فوزي؟ لم يظهر حتى الآن ما يشير لذلك.

ومن الذي تمناه الناس كثيرا وانتظروه من الأستاذ هيكل ولم يحصل مع الأسف أن يكون ثمة حوار مطول معمق مع الزعيم عبد الناصر عن تجربته المهمة الهائلة وما رافقها من نجاح وإخفاق وإيجاب وسلب. وكان هو وليس غيره الأقدر على مثل ذلك الحوار بحكم قربه من الرجل ومعرفته الدقيقة بكل خفايا سيرته وشؤونه وشجونه، ولربما أن الموت الذي خطف عبد الناصر في بداية الخمسينيات من عمره هو الذي حال دون ذلك الحوار المهم.

وأخيرًا هل كان الأستاذ هيكل الذي امتد به العمر فاقترب من إكمال قرن من الزمن في تألق وسطوع وبروز تفرد به وحده هل كان بلا أخطاء؟ وهل كانت سيرته نقية مبرأة لم ينلها شيء مما اعتاد البشر الوقوع فيه؟ كلا فهو في النهاية إنسان له لا شك أخطاؤه مثله مثل غيره من بني الناس فمهما بلغ الفرد من الرقي والعظمة فإنه يستحيل عليه بلوغ الكمال، ويظل في النهاية كائنا بشريًا يصيب ويخطئ ولكن الإنسان في المجمل - أي إنسان- هو إنجازاته ونجاحاته ومآثره وإصابته الأكثر مقارنة مع أخطائه الأقل.

والمتنبي يقول:-

وتركك في الدنيا دويا كأنما

تَداولُ سمعَ المرءِ أنمله العشر

وأخيرا الأستاذ هيكل ظل بارزا ومحتشدا بقوة لم تهزمه الشيخوخة، ولم يقهره الشيب حتى انتهت أيامه في هذه الدنيا.. وسيظل على الدوام حاضرًا مهما تقلّبت الظروف والأحوال.

تعليق عبر الفيس بوك