الكتابة على جدران الحارة

حميد السَّعيدي

تبدأ المرحلة الأولى من حياة الطفل في التعبير عن ذاته مع مرحلة الإمساك بالقلم ومحاولة ممارسة هواية تتناسب مع قدراته العقلية؛ حيث ينطلق بالشخبطة على كل ما يجده أمامه في تلك اللحظة فيكتب على الورق وأحيانا على جدران البيت لمجموعة من الخطوط غير الواضحة المعالم رغبتهً منه في التعلم التدريجي للكتابة، وأحيان يرسم رسومات ما يخيله اليه في عقله أو ما يحتفظ به بذاكرته من رسومات لشخصيات محببة، أو مما يلتقطه من مشاهدات مختلفة من الصور أو الفيديوهات، لكن كل هذه المنتجات ليست ذات معنى أو فائدة بالنسبة للقارئ، ولكنها بالنسبة إليه هو منتج كبير يحتاج لتعزيز وتشجيع، ومع تعلمه التدريجي ينتقل هو لإظهار ذاته خارج أسرته ليبدأ بالكتابة على الجدران الخارجية في حارته، وأحيانا يرسم ما يعبر عن شعوره فتظهر رسومات تمثل رسائل معينة تحتاج للقراءة والتحليل؛ فتملتئ جدران الحارة بالعديد من العبارات المتنوعة في جوانب تعبر عن ذات الفرد، هذا التشبيه هو قريب من الحالة التي نمر بها في العصر الحديث في ظهور شبكات التواصل الاجتماعي التي أصبحت اليوم جزءا أساسيا من حياتنا، فقد انتهى عصر الرسالة الورقية أو النصية القصيرة، وأصبح التواصل في عالم افتراضي مفتوح مع كل ثقافات شعوب العالم، نتجه عنه خليط من الثقافات المتنوعة لدى الفرد، وأصبح أكثر مقدرة من الماضي للتعبير عن ذاته، وأظاهر تميزه ورغبته في الظهور لدى الجميع؛ سواء كانت كتاباته ومنشوراته ذات معنى أو أنها خليط ليست ذات فائدة؛ فأصبح الفرد مشوشا فكريا نتيجة التداخل الثقافي والمعلوماتي الذي ينشر سريعا في شبكات التواصل الاجتماعي، حتى مدى مقدرته على التدقيق في صحة وصدق المعلومات لم تُعد ذات مصداقية أو ثبات فأصبح مشوشا في معارفة وإصدار أحكامه، وهذا نتيجة لوجود العديد من العوامل المؤثرة في النشر الإلكتروني ومنها الرغبة في السبق في نشر الخبر، والتميز بالمعرفة دون الآخرين، مما نتج عنه فوضى معرفية في عالم شبكات التواصل الاجتماعي، خاصة برنامج "الواتس آب" وغيره من البرامج المختلفة؛ مما خلق جوًّا من التراكم المعرفي غير الصحيح وتناقل لأخبار لا تجد نفسك مصدقا لها، نتيجة العبث في مصداقيتها. وبالرغم من خطورة هذا الأمر، فالكثير غير مدرك له؛ لذا جاء الدين الإسلامي بالعديد من النصوص القرآنية ومن السنة النبوية التي تحذر من عملية تناقل المعلومات وضرورة التعامل معها والتأكد من صدقها وأثرها في حالة نشرها، هذا قبل أربعة عشر قرنا منذ ظهور الدين الإسلامي من ذلك بقوله تعالى في كتابه العزيز: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا" (الإسراء:36)، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" (الحجرات:6)، ويقول رسولنا الكريم "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع" رواه المسلم، هذا التوجيه الرباني جاء ناهياً في كيفية التعاطي مع الأخبار أو القيام بنشرها دون التأكد منها، وهنا تقع على الفرد مسؤولية ما قام به سواء كان صائبا أو مخطئاً؛ فالأمر لم يعد بتلك البساطة حيث أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي مصدر يهدد الأمن القومي للدول ويثير الفتن الفوضى بين الأفراد والمجموعات، ويثير العصبيات الدينية والقبيلة والعرقية، كما يتسبب في المشاكل السياسية بين الدول وتفتح أبواب الصراع والاختلافات، ويؤثر على العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع ويهدم أوصال التراحم بين الأخوة والأصدقاء، ويسبب انهيار في العلاقات الأسرية ويرفع من معدلات الطلاق والانحراف، ويثير قضايا داخلية ويرفع من وتيرة الخلافات بين أفراد المجتمع؛ فكم من الصراعات ظهرت بسبب الخلاف في الحوار في شبكات التواصل الاجتماعي، وكثيره هي القضايا التي نجمت عنها إلى جانب قضايا النصب والاحتيال الإلكتروني، كما يؤثر على التنمية الاقتصادية ويسبب في انهيار المؤسسات الاقتصادية ويؤثر في المردود المالي، ويؤثر أيضا على الجانب الديني ويظهر الكثير من الفتاوى فكم من فتوى نشرت وهي تخالف الدين والمنطق، ويصبح المجتمع رهينة لكل هذا العالم الافتراضي، فالتعامل اليوم مع هذا العالم يجب أن يتم بحنكه وحكمة وعدم الانزلاق خلف ما يحدث فيه، فكل فرد محاسب على كل كلمة يكتبها أو يعيد نشرها فإن لم يحاسبك القانون حاسبك المجتمع؛ فكلمة واحدة قد تفتح لك أبوابَ الخير نتيجة التأثير في نشر الصلاح، أو قد تزج بك في أضيق السجون، بالرغم من فتح مجال حرية التعبير عن الرأي والتعبير عن الذات بحرية، إلا أنَّ العديد من دول العالم سعت لصياغة القوانين التي تضع النقاط على الحروف ولم تترك الأمر هكذا؛ ليس بهدف محاربة الحربة وإنما من أجل ضبطها؛ فالحرية تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، وعلينا أن نعي جيدا أنَّ للكلمة قوة، وهذه القوة متى ما استُغلت بصورة إيجابية كان لها الأثر الإيجابي على المجتمع؛ لذا يتوجب معه أن يكون الأمر أكثر جدية فهو ليس كالكتابة على جدران الحارة من أجل التعبير عن الذات.

فلم تُعد تلك الحارة كعهدنا بها في الماضي؛ فقد تغيَّرت كثيراً وأصبحت معالمها مختلفة؛ فجدرانها تغيَّرت وأصبحت بلا حدود، وأسقفها التي صُنعت من سعف النخيل أصبحت مفتوحة بلا غطاء، وأصدقاؤنا البسطاء تغيَّرت ملامحهم وسلوكهم ولغتهم وأصولهم، وأصبحنا نتعايش في عالم كبير، وهو بحاجة للتيقن منه قبل الكتابة على جدرانه.

Hm.alsaidi2@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك