كيف نبني بلدا ثريًّا؟

د. سَيْف المعمري

هذا سؤالٌ يشغل بال كثيرٍ من الناس الذين يودون الحصول على إجابة واضحة عنه، خاصة في هذه الفترة التي تأثَّرت فيها دول المنطقة بانخفاض أسعار النفط؛ مما قادها إلى اتخاذ إجراءات تقشفيَّة طالت كثيرًا من الجوانب المهمة التعليمية والاجتماعية، ويطرح البعض سؤالا آخر موازيا لذلك السؤال؛ وهو: كيف حقَّقت بعض البلدان الثراء في وقت لم تنجح فيه بلدان أخرى في تحقيق ذلك؟ هل الأمر مرتبط بالحظوظ والموارد الاقتصادي، أم أنه مرتبط بنمط التفكير؟! إنَّ الثراء الذي أقصده هنا هو الثراء الاقتصادي الذي يُعطي بلدا ما قدرات مالية كبيرة تحميه في أوقات الأزمات، وتكفل له تحقيق مستوى رخاء لسكانه ليشعروا بالسعادة التي تدفعهم إلى مزيد من العمل والإنتاج.

... إنَّ دولًا مثل فنلندا والسويد وكوريا الجنوبية لم تحقق النجاحات التي يتكلم عنها كثيرون لولا اختلاف نمط تفكيرها عن بقية دول العالم؛ فالتقدم لا يأتي من فراغ، إنما يأتي من أفكار متميِّزة، وهذا يعني أنَّ هناك بلدانًا لديها عقول غنية بالأفكار التي تحقق استثمار أفضل للموارد المادية والبشرية، في وقت توجد فيه بلدان لا تستثمر الأفكار التي تحملها عقول أبنائها؛ لذا أطرح هذا السؤال سيما في ظل نقاشات لا تهدأ حول سبل استثمار الموارد الطبيعية لتحقيق الثراء الاقتصادي، وتوظيف المنهج المقارن مهم جدا خاصة في ظل تعدد التجارب الدولية التي تقدم قواعد واضحة لكيفية تحقيق النجاح، وهذه القواعد يطلع عليها كثير من المسؤولين والمؤسسات عن كثب نتيجة زيارات مستمرة إلى هذه الدول.. فلماذا لم نتمكَّن من الاستفادة من نمطية تفكير هذه الدول حتى نحقق بعض مما حققته؟

لقد ولَّدت هذه التساؤلات جلسة مجلس الشروى مع وزير السياحة، وهي جلسة تمَّت فيها استعادة نفس الطروحات التي تمَّت إثارتها خلال العقدين السابقين، اللذين لم ننجح فيهما في جعل السياحة وسيلة لتحقيق الثراء، وأداة قوة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، ولأنني لم أجد في الجلسة أي طرح لتفكير إستراتيجي مختلف عمَّا مضى، ازداد إلحاح السؤال: كيف نبني بلدا ثريا على المدى الطويل؟ وكيف نجعل هذا القطاع وغيره من القطاعات مصادر حيوية في إعادة بناء الاقتصاد؟

لكي نحقِّق ذلك، لابد أن نتعلم من الآخرين، ونستفيد من تجاربهم المميزة، ونحاول أن نتجنَّب إخفاقاتهم، لكي نبني بلدا ثريا، بدلا من أن نبني أفرادًا أثرياء؛ فزيادة عدد الأثرياء في بلد لا يعني وجود بلد ثري؛ وبالتالي لابد من الاستفادة من المقال الذي نشره المليونير براندون تيرنر في موقع "أنتربوينور"، وقامت بالتعليق عليه جريدة "العربي الجديد"؛ حيث وضع أربع معوقات لتحقيق الثراء على المستوى الفردي، وهي أيضا تنطبق على المستوى الحكومي، وأولى هذه القواعد: "عدم الدراية بكيفية مراكمة النقود"، وهو أمر مرتبط بكيفية استثمار العوائد المالية، بدلا من إنفاقها في مشاريع غير إنتاجية، أو استثمارها بشكل غير مجدٍ، أو استثمارها بشكل لا يُحقِّق الأرباح المتوقعة، وهذا يرتبط بنمط التفكير الذي يقود هذه الاستثمارات؛ فهناك دول لديها عقلية استثمارية متميزة، بينما هناك دول لديها عقلية استثمارية "غير مربحة"، وما لم تتغيَّر العقلية الاستثمارية لقطاع السياحة لن نتمكن من جعله قطاعا إنتاجيا مربحا.

أما المعوق الثاني، فهو: "عدم تقدير قيمة التعلم"؛ لأنَّ التعلم مرتبط ببناء أفراد قادرين على الانتقاء من بين أفضل الأفكار لاستثمار الإمكانات المتاحة؛ مما يجعل فرصَ النجاح كبيرة جدا؛ فالثراء الاقتصادي لا يأتي من الإمساك بأية فكرة والعمل عليها بغض النظر عن محدودية جدواها، ولأن متخذ القرار عندنا عادة ليس لديه وقت للقراءة التي يؤكد عليها رجل الأعمال نوح كوخان الذي يقرأ كل صباح، ويخصص في جدوله الأسبوعي وقتا للتعلم كل ثلاثاء، لابد من الاستفادة من الخبراء الذين يمكن أن يقدموا أفكارًا مفيدة لنا؛ فالتقدم الاقتصادي الذي حققته كثير من الدول ارتبط بالأفكار، وبالخبراء الاقتصاديين القادرين على التخطيط الإستراتيجي.

أمَّا المعوق الثالث، فهو مرتبط "بالإنفاق الرشيد والدقيق"، فلابد من معرفة أين تنفق العوائد: هل في جوانب ضرورية أم في جوانب غير ضرورية، لا يمكن تحقيق النجاح إن لم توجد محاسبة وضبط للإنفاق؛ وبالتالي: هل سألنا أنفسنا ما الذي أنفق على قطاع السياحة حتى الآن؟ هل كان الإنفاق مبررا؟ هل كان مبالغا فيه؟ هل يمكن من الآن أن يتم التطوير السياحي بشكل أكثر دقة وصرامة، من أجل مضاعفة الإنجاز بالإمكانات المتاحة، بدلاً من المضي في التطوير بشكل مبالغ فيه يفوق الإمكانات المتاحة.

أما المعوق الرابع، فمتعلق "بمحدودية الأصول"، أي الأشياء الثابتة التي تمتلكها الحكومة على أرض الواقع مثل الحصص في الشركات، أو المشاريع السياحية، والتي يمكن أن تمثل مصدرَ دخل في أوقات أخرى حين تلجأ الحكومة مثلا إلى بيعها، وقد يحدث العكس أحيانا حيث تمضي الحكومة إلى التخلي عن هذه الأصول دون مبررات مقنعة، مما يعيق تعزيز مساهمة هذا القطاع وغيره في الإيرادات العامة للدولة، إذن تحقيق الثراء للبلد يتطلب المضي في جمع الأصول، والمحافظة على القائم منها.

وفي ضوء ما تقدَّم، يتَّضح أن تحقيق الثراء الاقتصادي يتطلب فهم "لعبة الحصول على المال"، وفهم لعبة "استثماره بطريقة مبتكرة"، وفهم لعبة "مضاعفة النقود"، وهذا الذي تتقنه دول في حين تفتقد إليه دول أخرى، وهو ما يمكن الإشارة إليه بامتلاك "العقل الاقتصادي". لذا؛ فلابد أن نتعلم بجد من أجل زيادة فرص امتلاكنا لهذا "العقل"، هو نقطة الانطلاقة لتحقيق الثورة الاقتصادية المنشودة في قطاع السياحة، لقد أكد ستيف سيبولد في كتابه "كيف يفكر الأغنياء؟"، أن عنصر المخاطرة المدروسة يعتبر أحد الفروق بين تفكير الذين يسعون للثراء وبين أولئك الذين يريدون بعض المكاسب البسيطة التي تحفظ لهم مستوى الحياة القائمة.

تعليق عبر الفيس بوك