تنمية الهُويَّة

سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟(40)

د. صالح الفهدي

في لقاءٍ مع وسائل الإعلام منذ ثلاثين عاماً، قال جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- في العام 1986: "إنَّ الذي ليس له ماضٍ ليس له حاضر ولا مُستقبل، وأن من نسي تراثه وتاريخه نساه الناس، فهو كالمشرد الذي لا يعرف نسبه. من هذا المنطلق كان اهتمامي الشخصي واهتمام الحكومة والشعب العُماني ككل بتراثه وتقاليده؛ فهو ينظر إلى ماضيه ويستمد منه مستقبله، وبهذا فإنَّ المدنية بما فيها من خير وشر لا تفقد الإنسان هُويته. من هُنا يكون تمسكنا بكل القيم التي يجب أن نتمسك بها، وأن أبناءنا حين يشبون وينظروا من حولهم لا يجدون فراغاً من حولهم كبعض الشعوب التي وجدت فراغاً".

فالهوية إذن تشكِّل جوهر الذاتية وسمة الخصوصية للفرد والمجتمع، كما أنها مجموعة القيم والمثل والمبادئ التي تكون أساس الشخصية المجتمعية أو الفردية، متكونة من رصيد تراكمي عماده الدين، واللغة، والتاريخ، والعلوم، والعادات والتقاليد. الهوية هي الوعاء الأصيل للمجتمع وجوهرها الأصيل الذي يتجدد ويتغير بحسب المعطيات والتحديات والمتغيرات. يقول عالم النفس (Erik Erikson): "في الغابة الاجتماعية للوجود الإنساني لا قيمة للحياة بدون الإحساس بالهوية".

لكن لنسأل أنفسنا: هل يعرف أبناؤنا -ونحن معهم- تاريخنا، وخصائص الهوية العمانية التي تتشكل منها خصوصيتنا كشعب، وطبيعتنا كمجتمع، وتميزنا كأفراد؟! هذه أسئلة يجب أن نتوقف عندها؛ لأننا نعتقد أن ما يعرفه الفتى عن أندية "برشلونة" و"ريال مدريد" أكثر مما يعرف عن تاريخه..!! لماذا؟! أعتقد أن ذلك بسبب الشغف لما حُبِّب إليه وما فتح عينه عليه في دنياه، فوجد أن عليه أن يختار إمَّا أن يناصر (بل ويتعصب) للنادي الأول أو الثاني. أما لو قلت له إنَّ بلدك عضو في منظمة عدم الانحياز لأنها أبعدت نفسها عن القطبين العالميين، فسيجحظ عينيه ويسأل: ماذا تعني منظمة عدم الانحياز؟!

تقول لي مُحاضِرة يمنية مُتخصِّصة في التاريخ العماني إنَّها كلما حاضرت عن التاريخ العماني في الألف الثالث قبل الميلاد -أي منذ خمسة آلاف عام- يشعر طلابها وبعض الأساتذة بالشغف والفخر، قائلين إنهم لأول مرة يستمعون لهكذا حديث عن عراقة التاريخ العماني وخصائصه المتميزة.

الهُويَّة الوطنية جوهر الحضارة للأمة، وكينونة الذات للشعب، هي كالبحيرة إن توقف ماؤها أسن ونتن؛ لهذا لابد لها من روافد ومساقي تجدد ماءها، وتبعث فيها الحياة النضرة باستمرار. يحسب البعض أن حجتهم في إبقاء الهوية كما هي دون تغيير إنما ذلك هو الحفاظ على الهوية، لكنهم لا يدركون أن العصر يتغير، وأنه هذا التغيير يحتم ديمومة النمو للهوية وفق المسارات والسمات التي تشكلت عبرها الهوية تاريخياً. التوقف عن تنمية الهوية الوطنية يعني جمودها، وتحجرها، وهذا يدفع أهلها إلى نبذها وعدم الاعتزاز بالانتماء لها؛ لأنَّها أضحت لا تواكب الحياة العصرية كما هي في صورها الحديثة.

الهُوية الوطنية هي منظومة تشترك فيها العناصر الاجتماعية والسمات الأخلاقية والأطر الفكرية التي يمضي على منهاجها المجتمع والتي ارتضاها كينونةً له عبر تراكمات تاريخية فتميزت بها شخصيته.

فهل نَعِي جيداً أنَّ الهوية تُعاني في عصر العولمة من تحديات شتى وصفها د.علي وطفة بأنها كالصياد الذي يلاحق الفريسة (الهوية) حتى يقضي عليها!! فإن كنا نعي ذلك فماذا فعلنا لتوطيد الفهم التاريخي الذي هو القاعدة الأساسية التي يفهم من خلالها الواقع الحالي؟! في حديثه الشيق المتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يتحدَّث الدكتور إسماعيل الأغبري عن الرابط بين منهجية السياسة العمانية والمبادئ التي التزمت بها منذ مئات السنين..! وضرورة أن يتعرف الشباب على تاريخهم ليفهموا واقع الحال في السياسة التي مضت وفق مبادئ قديمة حديثة شكلت إرثاً قويماً حافظت عليه ليس تقديساً للتراث وإنما اقتناعاً بفكرة الإرث نفسه، وإيماناً بأنه النهج الأسلم في السياسة التي لا تدوم لها عداوة ولا صداقة. ومطلب تعرف الأجيال على التاريخ لا يقتصر على السياسة وحسب، بل يمتد إلى كل الجوانب الأخرى الأدبية والفنية والاجتماعية والاقتصادية.

لقد قال جلالته كلمة الفصل في حديثه سابق الذكر: "أكرر القول بأنَّ التراث هو الإنسان ذاته، فهو عندما يطور فكره ويبدع يصبح هو التراث ذاته"، وهذا قول عميق لأن الدارج هو أن التراث مرتبط بالمادة أكثر مما هو مرتبط بالإنسان، بينما الحقيقة هي أن الإنسان هو مبعث التراث وهو صانع التاريخ؛ لذلك يُصبح التراث وهو لب الهوية مختزلًا في الإنسان. يقول المفكر وعالم الاجتماع د.عبدالوهاب المسيري: "لا بد أن يدرك الناس أن الهوية ليست مجرد فولكلور ولكنها الرؤية الفلسفية للإنسان".

لكنَّ الإنسان هو في الأصل مُحصِّلة تجارب، ومركز خبرات فإن لم يتعرض إلى التجارب، وإن لم يتلق الخبرات فإنه لا يستطيع أن يبدع، وبهذا فلن يشكل هوية أصيلة، ولا يمثل تراثاً حقيقياً! هذا ما يحدثه التقصير في تقديم التاريخ والاجتماع كمعرفة للإنسان الذي يتم حالياً عبر انتقائية خاضعة لعقليات لا تقدم المعرفة إلا بالحشو الكمي، وبوسائل لم يعد يتقبلها الجيل الذي تربى على التفاعل مع الألعاب الإلكترونية التي تثير حماسه وشغفه، بينما يصيبه الكتاب، وحشو المعلومات التاريخية الجامدة بالملل والبرود!

لقد أوْجَزتُ هذه الفكرة لرئيس إحدى الشركات الاستشارية البريطانية التي تشرف على مشروع تاريخي عماني بأسلوب عصري.. قائلاً له: إنَّ الجيل الحديث لم يعد يتقبل المعلومة بالشغف الذي نتصوره إلا بالتفاعل؛ وذلك من خلال إشراكه في الحدث التاريخي الذي يجب أن يصبح جزءاً منه لكي ينسجم معه، ولا يتلقى المعلومة بأسلوب الحشو سماعاً أو قراءة، بل من خلال الاشتراك الفعلي فيها، وهي مهمة ليست بالسهلة، ولكنها أسلوب العصر، ولغته التي تثبت فاعليتها في الذهنية البشرية الحديثة.

إنَّنا إن أردنا أن نكون جادين في تنمية الهوية، فإنَّ ذلك يتطلب منا أن نغير في طرق التعليم، والإدارة، والإعلام والفنون والآداب وثقافة الطفل؛ لأن الوسائل العصرية التي تحيط بنا وتنخر في هوياتنا باتت تمتلك قدرات أكبر مما نحاول نحن عن طريقه تنمية الهوية. ولا شك أنَّ صور التأثير السلبي واضحة على صعيد اللغة، والدين، والمواطنة، والإعلام، والعمل، والعادات والتقاليد! وهذه العناصر أجمعها هي المقومات الرئيسية للهوية؛ فأية جهود تتجاهل تقوية هذه العناصر أو تتغافل عنها هي جهود واهمة تعمل خارج الواقع..!. يقول د.إبراهيم القادري في حديثه عن الهوية ومكوناتها الرئيسية: "الواقع أن مسألة ثبوت الهوية أو تغيرها قد طرحت على محك المساءلة والنقاش، وأثبتت المجادلات العلمية أن هوية أي مجتمع ليست أمراً ثابتاً وسرمديا كما ذهب إلى ذلك المفكر المغربي محمد عابد الجابري، بل يرتبط بالمؤثرات الخارجية وبالتداول العلمي للأفكار والثقافات" (إبراهيم القادري بوتشيش: حول مفهوم الهوية ومكوناتها الأساسية، من موقع http://histoire.maktoobblog.com).

... إنَّ هُوياتنا تتزحزح وهذا أمر واضح وإن كان غير واضح لمن هو غافل عنه، أو غير مكترث به، أو لا ينبه عنه، فنحن لا نملك مراكز دراسات اجتماعية، تنبئ عن زحرحة الهوية وحركتها، كما تفعل مراكز رصد الزلازل التي تصدر إحداثيات تزحزح الطبقات الأرضية!! ويأتي القول بتزحزح الهويات عن مركزها الأصلي بفعل ما يشهده العصر من تداخلات ثقافية، وتأثيرات أممية تجعل للقوى العظمى اليد الطولى في التأثير على شعوب العالم الثالث أو أي شعب لا يمتلك من الوسائل الفاعلة لتنمية الهويات. لم يعد الأمر إذن في معقل التقرير بالتأثر أم لا لأن "حقيقة العلاقة بين المجتمعات العربية المسلمة وغيرها، لا سيما الأمم الغربية ليست خيارا تقرِّر فيه هذه المجتمعات المضي فيه أو تركه جانبا؛ فطبيعة الحياة في هذا العصر لا تسمح لأي أمة من الأمم لأن تعتزل العالم، ولو حاولت فهي ستجني على نفسها وعلى أبنائها" (أسماء بن تركي، "الهوية الثقافية بين قيم الأصالة والحداثة في ظل التغيرات السوسيوثقافية للمجتمع الجزائري"، موقع جامعة قاصدي مرباح، المركز الجامعي-الوادي).

إنَّ الحديث عن تنمية الهوية في إطار المجتمع ليستلزم القول بأهمية وجود آليات ذات فاعلية تقوم بها المؤسسات الإعلامية والدينية والاجتماعية والاقتصادية الحكومية أو المدنية، كما أن ذلك واجب يقع على كاهل الفرد يحتم عليه العمل على تصحيح السلوك، وتوطيد عُرى الانتماء الوطني. سألني ذات مرة أحد الحضور في ندوة القيم العمانية عما في مقدور الفرد فعله وهو لا يمتلك إمكانية المؤسسات الحكومية، فأجبته بأنَّ ذلك لا يعفيه من الواجب وأن عمله مهما صغر فإنه لا يجب أن يحتقره، فلا يجب أن ينتظر أمراً من مؤسسة أو وزير ليعمل ما يحتم عليه واجبه الوطني أن يعمله. هذا الإحساس الوطني بالحفاظ على الهوية وتنميتها هو أمر يجب الإشتغال عليه كما تفعل بعض الدول التي تحاول جاهدة من خلال البرامج والآليات المختلفة أن تخلق جيلاً يشعر بالوحدة الوطنية، ويصون مكتسبات الهوية، ويحافظ على البنى والمقومات الأصيلة لثقافته. أما المجتمع الذي تدير مؤسساته الإعلامية فيه ظهرها لدعم القيم الأصيلة، ولا تسعى مؤسساته الدينية إلى تبسيط خطابها وإيصاله بصورة متقبلة للشباب، ولا تعمل مؤسساته الإجتماعية لتحفيز الفرد على التفاعل مع قضايا مجتمعه فإنه لا شك يعمل ذاتياً من أجل إضعاف هويته الوطنية وهشاشتها فلا يحق بعدها أن يسأل كيف حدث هذا؟!

إنَّ تنمية الهوية هو الشعار الذي حمله نبينا الأعظم -عليه أفضل الصلاة والسلام- في قوله "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق"؛ إذ لم يجب ما قبله من القيم الفاضلة، والأخلاق الكريمة التي كانت موجودة في العصر الجاهلي، وإنما ثبت الصالح منها ودعمه، وتخلص من سيئها وحذر منه، وهذا ما يجب أن نستمر العمل به داعمين ومرسخين لما يقوي دعائم الهوية الوطنية ويعمل على تنميتها بصورة دائمة.

يقول الباحث د.أحمد بن نعمان: "الأمة هوية، والهوية ثقافة، والثقافة دين ولسان ووجدان".. علينا إذن أن نراقب جيداً ما يحدث في هذه العناصر الثلاثة لنرصد حراك الهوية ومستوياتها لكي نقرر أين موقعنا من الجوهر..!

تعليق عبر الفيس بوك