مع فكر فرج فودة

زاهر المحروقي

في مقالي السابق بعنوان "في الليلة الظلماء.. يُفتقد البدر" أشرتُ إلى كبوة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، وهي شهادته في المحكمة التي نظرت في قضية قتل الكاتب المصري فرج فودة؛ إذ وصفه بـ "المرتد"، وأفتى بجواز أن يقوم أفراد الأمّة بإقامة الحدود عند تعطيلها، وإن كان هذا افتئاتا على حق السلطة، ولكن ليس على من يقوم بذلك عقوبة حسب رأيه؛ وحكمٌ كهذا من شأنه أن يشيع الفوضى ويعطي الضوء الأخضر لكلِّ أحد أن يقيم الحدود حسب فهمه وانتمائه، لأنّ كلَّ فرقة من فرق المسلمين ترى الفرقة الأخرى فرقة ضالة وكافرة يجب أن يقام عليها الحدّ، وقد بدأت بعض المنظمات في تطبيق ذلك على الواقع، ثم إنّ غالبية علماء الأمة أخذوا الإسلام عن أسلافهم فنبذوا الاجتهاد ورأوا فيه كفراً أو إنكاراً للدين، وعندما ظهرت بعض الأصوات تجتهد وتعيش الواقع، إذا بتُهم التكفير جاهزة، وهي التهمةُ التي وُجِّهت لكثيرين ممن اجتهدوا ولم يعتمدوا فقط على الموروث، منهم مصطفى محمود، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد شحرور، وجمال البنا، والمستشار أحمد ماهر، وأحمد صبحي منصور، وسيد القمني وغيرهم، وعندما تقرأ اجتهادات هؤلاء فإنك قد تتفق مع بعض الآراء وتختلف مع أخرى، ولكن لا يصل الأمر إلى تكفيرهم، فقد نُقل عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قوله: إنّ المجتهد إذا أصاب له أجران، وإن أخطأ له أجر واحد؛ بمعنى أنّ المجتهد إذا أتعب نفسه في استنباط الحكم ووصل إلى النتيجة الصحيحة، فإنّ الله سوف يثيبه ويعطيه أجرين، هما أجرا الاجتهاد والإصابة، أمّا إذا اجتهد وأخطأ فالله يعطيه أجراً واحداً ولا يعاقبه على خطئه، وهو مبدأ إن طبقه المسلمون ربما كانت الأمة بخير، وفي رأيي أنه من الخطأ أن ننكر اجتهادات الناس، حتى وإن أخطأوا، فهناك من يصيب بنسبة 98%، ولكن الناس لا ترى ذلك وإنما يركزون على الخطأ ولو بنسبة 2%.

تعليقاً على مقالي السابق، بعث لي أحد الإخوة الأعزاء رسالة قال فيها "إنك أعطيت الشيخ الغزالي رحمه الله حقه، ولكني أختلف معك في نقطة واحدة، هي شهادته في قتل فرج فودة، لأنّ كلّ ما كتبه فودة ليس إلا هجوماً فظيعاً على الإسلام ليس مسبوقاً، ولذا كان قتله جزاء وفاقاً على ما أهان الإسلام وأهل الإسلام"، وكانت تلك الرسالة تحفيزاً لي لأن أبحث وأنقِّب عن الرجل خاصة أنّي لم أقرأ له من قبل، فشاهدتُ كثيراً من مناظراته ومحاضراته، وهي متوفرة على النت، وقد وجدت نفسي أمام رجل مفكر يُعمِل عقله ولا يعتمد على النقل، وهو النقل الذي أدى بالأمة أن تتخلف عن الركب، فخسرت الحاضر والمستقبل.

في السطور التالية بعض أفكار فرج فودة من خلال بعض كتبه ومقالاته ومناظراته، وهي التي أثارت جدلاً واسعاً، واختلفت حولها الآراء وتضاربت، لأنه كان يؤمن بفصل الدين عن السياسة والدولة، ولكن ليس عن المجتمع.

آمن فرج فودة بحتمية الاجتهاد وإعمال العقل، فاعتبر أنّ "الإسلام على مفترق طرق، وطريق منها أن نخوض جميعاً في حمامات الدم نتيجة للجهل وضيق الأفق لانعدام الاجتهاد المستنير، وطريق آخر أن يلتقي العصر والإسلام، وذلك هين يسير، وسبيله الوحيد هو الاجتهاد المستنير والقياس الشجاع والأفق المتنور"، ومن ثم فقد انصبت أعماله الفقهية على تعريف حدود الاجتهاد وتطبيقاته المعاصرة، وهو يؤمن أنّ شأن كلِّ مجتهد يعود إلى الله، فهو "أعلم أين الحق وهو خير ناصر إن كان الحق معنا، وخير غافر إن كنا قد اجتهدنا فأخطأنا الاجتهاد"، ويرى فودة أنّ قاعدة "لا اجتهاد في وجود نص" الفقهية تخالف واقع التاريخ الإسلامي، وخاصة سيرة الخليفة عمر بن الخطاب، الذي له عدد من الاجتهادات التي خالف فيها النصوص، ويستخلص فودة نتيجتين من سيرة عمر، "أولاهما أنّه استخدم عقله في التحليل والتعليل، ولم يقف عند ظاهر النص، وثانيهما أنه طبَّق الإسلام وجوهره مدركاً أنّ العدل غاية النص، وأنّ مخالفة النص من أجل العدل، أصحّ في ميزان الإسلام الصحيح من مجافاة العدل، بالتزام النص"، ولكنه يرى أنّ الاقتداء بسيرة عمر لا تعني إطلاق جواز مخالفة النصوص، بل إنّ "الحكم بالجواز جائز في بعض الحالات وللضرورة، ولأسباب منطقية وواضحة، تتسق مع روح النص وعلته، وفي هذا مساحة واسعة للاجتهاد، دون رمي لقفاز التكفير في الوجوه، ودون ادعاءٍ باطل بأنهم المسلمون، وأننا الكافرون، إلى غير ذلك مما يرونه حقاً ونراه باطلاً، ويرونه علماً بالفقه ونراه جهلاً بالفقه وبالتاريخ، ويرونه إيماناً ونراه تعصباً مقيتا".

ويرى فرج فودة أنّه لا بد من مراجعة برامج التعليم الحالية، لأنّها أحد أسباب ظهور جيل يستنكف استعمال العقل ويحجم عن إعماله ويستهين بالحضارة الإنسانية ويحمل لها خالص الاحتقار، ويجهل تواصل تاريخه وتنوعه وتعدد انتماءاته ولا يرى منه إلا جانباً واحداً، هو الوجه المضيء، بينما جوانبه الأخرى شتى، شأنها شأن أي تاريخ "ولو نجحنا في أن يكون الهدف الأول للتعليم هو إعمال العقل واستخدام المنطق والأسلوب العلمي والمنطقي في التفكير، لقضينا على جانب كبير من جوانب مشكلة الإرهاب التي نواجهها الآن".

يرى فرج فودة أنّ اعتبار تيار الإسلام السياسي المعاصر في مصر تياراً واحداً هو خطأ شائع، فهو يقسمه إلى ثلاثة تيارات مختلفة هي: التيار التقليدي ويتمثل في جماعة الإخوان المسلمين والتي - رغم اعتدالها الظاهري- ينبئ تاريخها في مصر بلجوء بعض أجنحتها إلى اغتيال المعارضين في ظلِّ الأنظمة الديمقراطية أو قلب نظام الحكم في ظل الأنظمة الشمولية."؛ والتيار الثاني هو التيار الثوري ويتمثل في الجماعات الإسلامية المسلحة التي نشأت في أواخر الستينيات، وهي تعتقد بجاهلية المجتمع وترفض الدستور والديمقراطية وتؤمن بالعنف كأسلوب وحيد للعمل السياسي؛ أما التيار الثالث فهو التيار الثروي - من الثروة- ويتمثل في أصحاب الثروات المتضخمة التي تكونت نتيجة للعمل في السعودية أو في مصر بعد الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات؛ وحسب موقع "وكيبيديا الموسوعة الحرة"، فيمكن اعتبار العديد من كتب فرج فودة دراسات تفصيلية للتيارات الثلاثة، كذلك يُعتبر كتابه "النذير" تأريخاً لحركة هذه التيارات.

يرى فرج فودة أنّ انعدام وجود برنامج سياسي لدى التيار الإسلامي هو أكبر الأخطار على مستقبل مصر، ويعزوه فكرياً إلى قصور فكر الاجتهاد لدى أنصار هذا التيار، وفي هذا له رأي جريء وهو أنّ "الدولة الإسلامية تحتاج إلى برنامج سياسي يعرض تفصيلاً وتأصيلاً للعموميات والجزئيات، وأنهم أعجز من أن يصيغوا مثل هذا البرنامج أو يتقدموا به، وأنهم يهربون من الرحى برميها فوق رؤوسنا، داعين إيانا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، التي تقودنا بالحتم إلى دولة دينية إسلامية، نتخبط فيها ذات اليمين وذات اليسار، دون منارة من فكر أو اجتهاد مستنير، وليحدث لنا ما يحدث، وليحدث للإسلام ما يحدث، وما علينا إلا أن نمد أجسادنا لكي يسيروا عليها خيلاء، إنْ أعجزهم الاجتهاد الملائم للعصر رفضوا العصر، وإنْ أعجزهم حكم مصر هدموا مصر".

لقد آمن فرج فودة أنّ دوره ككاتب هو إيصال رسالة التنوير: "إنّ علينا جميعاً واجباً أساسياً وتاريخياً، وهو أن نترك لأبنائنا مناخاً فكرياً أفضل؛ وهو أمر لا يتأتى إلا بمواجهة الإرهاب الفكري بكلِّ الشجاعة والوضوح والحسم"، ولقد كان قوياً في مواجهة آراء خصومه، وهو القائل "لا أبالي إن كنتُ في جانب والجميع في جانب آخر. ولا أحزن إنِ ارتفعت أصواتهم أو لمعت سيوفهم. ولا أجزع إن خانني من يؤمن بما أقول. ولا أفزع إن هاجمني من يفزع لما أقول، وإنما يؤرقني أشد الأرق، ألا تصل هذه الرسالة إلى من قصدت، فأنا أخاطب أصحاب الرأي لا أرباب المصالح، وأنصار المبدأ لا محترفي المزايدة، وقصاد الحق لا طالبي السلطان، وأنصار الحكمة لا محبي الحكم، وأتوجه إلى المستقبل قبل الحاضر، وألتصق بوجدان مصر لا بأعصابها، وحسبي إيماني بما أكتب، وبضرورة أن أكتب ما أكتب، وبخطر ألا أكتب ما أكتب، حيث إنّ الكلمة أحياناً قد تمنع رصاصة، لأنها بالطبع أقوى وأبقى، وإنّ الحرف يقتل، وإنّ الكلمة كانت هي البدء ويقيناً هي الختام، والفكر يحييه الاضطهاد، والمنطق ينشره منع النشر، وصاحب هذا القلم يعرف قدر نفسه وحجم تأثيره، والهامة المرتفعة بالحق لا تنحني أبداً، والقلم المعبر بصدق لا ينكسر أبداً، والنفس المؤمنة بالله لا تراعي أحداً أبداً".

لقد كان فرج فودة مخلصاً لما يؤمن به وقوياً في الإعلان عن أفكاره، لذا كان مستعداً أن يواجه مصيره، وإذا كان جمال البنا يقول إنّ كتبه وأفكاره للخمسين سنة القادمة، فإنّ أفكار فرج فودة هي أفكار للمستقبل أيضاً.

تعليق عبر الفيس بوك