كل ما أريده في رأسي

رحاب أبو هوشر

قادتني صدفة لمشاهدة حوار علمي متلفز، مع البروفيسور البريطاني "ستيفن هوكينج". مضت برهة مُربكة، بينما كنت أستمع إليه متحدثا عن نظرياته الكونية، تساءلت خلالها عن مصدر الصوت، فلم يكن يظهر على الشاشة أمامي، إلا شخص ضئيل الحجم يغوص في كرسيه، لا تفصح ملامح وجهه عن كونه يتحدث، فالشفاه مطبقة والتعابير جامدة. ثم انتبهت أن الصوت آلي، وأن يده ممتدة نحو جهاز يحاذيه بأزرار، يضغط عليها كلما تحدث. إنه عاجز أيضا عن الكلام، علاوة على ذوبان جسده، وذلك الجهاز يتولى مهمة حنجرته وأحباله الصوتية الهامدة.

رجل بجسد متآكل معطل، لم يسلم منه إلا رأسه وعقله الفذ، قدم للبشرية والحياة، ما لا يقدمه آلاف من البشر حتى لأنفسهم. فالبروفيسور "هوكينج"، المولود عام 1922، يعتبر أبرز علماء الفيزياء النظرية على مستوى العالم، إلى جانب كونه عالما كونيا، وتخصصه بعلوم الفلك، كما أن له أبحاثا زاخرة في الرياضيات التطبيقة.

وإن كان هوكينج "عبقري استثنائي"، إذ إنَّه يُعد في الأوساط العلمية أحد أهم عباقرة وعلماء الفيزياء النظرية، منذ عالم الفيزياء الأشهر ألبرت أينشتاين، إلا أن سيرة معركته مع جسده، تقدم درسا حاسما في سؤال ماهية الإنسان، وقدراته اللامتناهية. إنه يقدم البرهان المتجدد على أن العقل قيمة الإنسان الأساسية، وأن الحياة فكرة، وأن الإنسان فكرة، ونتاج ما يفكر ويؤمن ويحلم به، فالرجل يعاني من شكل نادر من التصلب الجانبي الضموري المعروف باسم مرض العصب الحركي أو مرض "لورجريج"، الذي سبب له شللا تدريجيا على مدى عقود من الزمن.

قال هوكينج في إحدى المقابلات: "إعاقتي كانت سببا في الشهرة التي أتمتع بها؛ إذ يعجب الناس بالتناقض بين قدراتي البدنية المحدودة للغاية، والنطاق الواسع من الكون الذي أتعامل معه، فأنا حر تماما". وفي تصريح آخر قال: "لا أشعر بأن حياتي محدودة، ولا يعيقني جسدي، فكل ما أريده هنا" مشيرا إلى رأسه.

لم يرضخ هوكينج لقيود جسده التي فرضها المرض المستعصي، قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين من عمره، وعاش حياة طبيعية غنية، يتمناها كثيرون. درس في جامعة "أكسفورد"، ثم عمل في جامعة "كامبريدج"، في المعهد المحيطي للفيزياء النظرية، وأنتج أبحاثا في علم الكون...وغيرها في علوم الفيزياء والرياضيات. وعلى غير ذوي الأزمات الصحية الحرجة، ورغم أنه كان يعلم بأن حالته الجسدية ذاهبة إلى الأسوأ، إلا أنه أحب وتزوج وأنجب، وبعد طلاقه من زوجته الأولى، كان له زواج ثان منذ سنوات قليلة، من مساعدة طبية له، بعد أن قضم المرض معظم جسده.

هوكينج.. معجزة العقل الإنساني عندما يعمل، فتخضع لقدراته وإمكانياته التحديات والخذلانات، حد الاستغناء إلى حد كبير عن الجسد وخدماته، وتوظيف أفكار العقل وابتكارات المخيلة بديلا لها، فإضافة إلى مرضه المتقدم ببطء، أصيب عام 1985 بالتهاب رئوي، فأصبح يعاني من صعوبات تنفس، في الوقت الذي لم يعد قادرا فيه على التحرك إلا باستخدام كرسي، وتفاقمت حالته ليفقد صوته، وأصبح تواصله مع العالم الخارجي عبر فريق مرافق له لمساعدته. يعرضون أمامه الحروف، ويرفع حاجباه للوقوف عند الحرف المطلوب، واستمر يعمل على أبحاثه ودراساته على هذا النحو، حتى صمَّم خبير كمبيوتر أمريكي اسمه وولت ولترس برنامجا، ساعده على التواصل من خلال لوحة أزرار في يده.

ولأنَّه عالم مُخلِص للمعرفة والحقيقة، وللحياة وقيمها الإنسانية الثابتة، فقد آمن بدوره كمثقف عضوي تجاه القضايا الإنسانية والعالمية؛ فهو ناشط في الأعمال الاجتماعية، ومن دُعَاة السِّلم والسَّلام العالمي، كما أنه مهتم بقضايا الطفولة وله إسهامات في قرى الأطفال العالمية، وكان له موقف مناهض للحرب الأمريكية على العراق عام 2003، وينشط مع عديد من الأكاديميين البريطاينيين في مقاطعة العدو الإسرائيلي، فأعلن رفضه المشاركة في مؤتمر يُقام في إسرائيل قبل بضع سنوات.

عبارة التثقيف الصحي الاستهلاكية عن "العقل السليم في الجسم السليم"، وإن كانت تصلح للتشجيع على الاهتمام بسلامة البدن، إلا أنها تفتقر للصحة في قراءة تلازم أحوال العقل والجسم؛ فبصيرة المعرِّي كانت أكثر حدة وصفاء من المبصرين منذ قرون طويلة، ليس البروفيسور هوكينج فقط من يدحض هذا التلازم، وإن كان أكثرها إذهالا، وأشدها تكثيفا لقدرة العقل على صياغة الإنسان وخياراته؛ فالعقل مَوْطن المعرفة والمخيلة والحلم، وهو الإجابة عن سؤال: من هو المعاق ومن هو المعافى؟

تعليق عبر الفيس بوك