عندما يكون الخضوع رفعة!

راشد الجنيبي

الضّعف، الاستسلام والخضوع.. مفرداتٌ ينفرُ منها الإنسان، وعادةً ما يتبجح مخلوق التراب هذا ويتعالى بابتعاده عنها؛ لأنها فعلاً مذمومةٌ في مقياسِ كرامته وثقيلة على ميزان عزته، وطفيلة أيضا في جُعبة روايات روحه مع الحياة، وبالأخص إذا اعتلى المناصب، وتلبسته أطياف الجاه والمراتب والكراسي.

فيخلق التكبر حينها، وقد يفسد التراب، ويتنازع الكل للعلا، وتبدأ سيمفونية حب العظمة، وجشع السلطة، وشهوة التملك، كل هذا درءاً للذلة وهرباً من جرح الكرامة بالاستسلام! ولكن بعيداً عن منافسة تعزيز الوجود، وعن مسابقة من لهم على كرسي التكبر عقود، ومن جعلوا للوصول إليها قيود، قد يلجأ المرء للاستسلام لترويض نفسه بالخضوع، وليريح نفسه بدواء الطمأنينة، ويمرغ روحه ببلسم السكينة، وأيضاً ليريح الجدال بينه وبين فكره بينه وبين عقله بينه وبين شكوكه.

ويكون الاستسلام والخضوع المطلق فقط لمعبود؛ فاختلفت الأقوام على ما يعبدون، ويسلموا أرواحهم قرابين لأي رب ليشبع ما فيهم من رغبة للخضوع والتسليم أو للعبادة؛ فمنهم من عَبَد الصنم، والآخر ركع للشجر، وغيره سبح للقمر، وأقوام صلت لبقر، وأجيال سجدت لبشر، وكل هذا ذلة وبها يصل مخلوق التراب لما كان ينفر منه بداية العراك!!

فيبحث التراب عن النور عن الحق، عن الوعي والركون السليم حتى يجدها بعد ملحمةٍ وروايات، فحينها يكون الاستسلام للحق، والعبودية للحق، والسجود للحق، والخضوع والتسليم للحق، عندما يكون كل ذلك للواحد الأحد المتعال، يكون الاستسلام حقاً ملاذا.

هنا.. يعبُد الإنسان الله مُستشعرا الوحدانية والخضوع واللجوء، وهنا فقط في هذا المشهد يكون الاستسلام رفعة، وهنا فقط يحصل الإنسان على اسم العبد تطبيقا للعبودية الحق، بل يزداد حنينا واشتياقا لهذا المشهد؛ لأنَّ حينها تتحول كل تلك المسميات ومعانيها لرفعة وعلو وعزة، يُصان حينها التراب لكي لا يفسد ولتعلو منه قيمته الحق العالية السماوية من عراك الشهوة وزنزانة الجهل وتنقى من شوائب الشهوات، ليعلن أن قيمة التراب هي الروح السامية وليس صلابة الطين.

العبادة أعلى مراتب الحب.. وبهذا تتحوَّل الذلة والاستسلام والعبودية لحب، ومن رحمة المعبود الحق أن جعل موعدنا معه كائن في كل مكان طاهر وأي زمان ظاهر، وعِوَضا عن مجلدات النثر والشعر لتدخل في قالب الغزل بين المحبين جعل هذ الحب ساميا بمعجزة القرآن، ولم يجعل في الصلاة فقط موعدًا ولقاءً، بل في الذكر لقاء وفي النفس معه لقاء وفي التفكر لقاء، ومن رحمته أن جعل للعبد خاصية الاختلاء به والسمو بروح العبد مختليا به وطامعا به، هو هكذا الحب وهكذا العبودية الحق، وهكذا نصنع من الاستسلام والذلة والخضوع ملاذاً تطوق له الأنفس وتجعل له ميعادا وحبا وعبادة.

تلك اللحظة عندما تخلق من سجادتك معبداً ومن اعتكافك اكتفاء، ويجعل من الغار سكينة خلوة وتفكر، تلك اللحظة هي أسمى مراتب الاستسلام.

تعليق عبر الفيس بوك