الريادة الإدارية والبيروقراطية.. ضدَّان لا يجتمعان

حمد العلوي

كُنت أظنُّ -وأنا المتقاعد- أنَّ هذه الصفة تشفع لي في إدارة بعض الأعمال التجارية البسيطة؛ وذلك دون حاجة لأن أطلب من أحد أن يزكِّي مصداقيتي، ولكن تفاجأت بأن هناك شيئاً يُطلق عليه مسمى بطاقة "رواد الأعمال"؛ فقيل لي إنَّ لها مفعولا سحريا لحلحلة العقد والتراكمات البيروقراطية، خاصة العقد في المواضيع التجارية، وقد أكَّد لي ذلك الكثير ممن سألتهم عنها، وإنه بإمكاني الحصول عليها بكل سهولة ويسر، فقُلت في نفسي طالما هذه البطاقة ستفتح لي باب الرزق، فلِمَا لا أجرِّبها لعلَّ الحظ يصحو من عثراته الكثيرة، وكان بأن أحد المعارف قد سبقني في الحصول على البطاقة الخضراء "ماستر كي" فوجدته فخورًا بها، وقد عقد آمالا عريضة عليها، فقلت له: "هيا ساعدني لكي أبدأ أولى الخطوات"، فطلب مني أن أدخل على الموقع بداية، وأطرق الباب بالتسجيل الإلكتروني، فتجاوزت هذه المرحلة بمساعدته، فأرسلنا الطلب إلكترونياً، وأتى الرد دون تأخير، ولكن هذا الدخول كان السهل الممتنع.

اليوم التالي.. انطلقت باتجاه مبنى صندوق الرفد، وحسب الوصف وجدت قاعة مفتوحة، تحتوي على مجموعة مكاتب لجهات رسمية عدة، لكنني صُدمت للأسف بأول موقف بسبب طول الانتظار، فذهبت للموظف بالسؤال: "متى سيصلني الدور"، لأن تسلسل الأرقام متوقف عن الحركة، فرد علي بأن أنتظر فعدت إلى حيث كنت أجلس.

ورَغْم أنني قطعت مجموعة من الخطوات، واستشعرت أن العملية سهلة، كما قال لي قريبي، إلا أن الخروج من شرنقة "العُقد" الإدارية لم يكن بتلك السهولة التي رسمتُها في مُخيلتي؛ إذ في سلسلة خطوات التسجل الدائرية، اعترضتني حلقة غير موجودة في نفس المبنى، وإنما يتوجَّب عليَّ الذهاب للبحث عن مكتب لسند في مكان آخر؛ وذلك لكي يُدخل بعض المعلومات ومن ثم العودة مرة أخرى، فذهبت أُنقِّب بين العمارات المجاورة عن مكتب سند، حتى ظفرت بأحدها، فأنجز دوره في فترة معقولة. وبالعودة لصندوق الرفد مرة أخرى، تفاجأت أنني أمام رحلة أخرى لسجل القوى العاملة، وكان أقسى ما في هذه الرحلة، إيجاد مكان لأوقف فيه السيارة، وبعد عدة محاولات وجدت مكانًا بعيدا فأوقفت السيارة فيه، وذهبت ماشياً لمسافة مرهقة.

وصلتُ بعد جهد إلى مبنى ضخم حيث سجل القوى العاملة، وكان الوقت عند الواحدة ظهراً، وكنت على استعداد للانتظار حتى نهاية الدوم، وأنا أحلم بأن أنجز مشروع بطاقة رواد الأعمال، ولكن يأبى الحظ إلا أن يعاكسني، فاكتشف الموظف رغم استعداده لمساعدتي، أنني غير مسجل في سجل القوى العاملة، فحاولت أبرر أنني متقاعد، وليس لي نية أن أعمل موظفاً من جديد لدى الآخرين؛ فقال من الضرورة أن يكون لديك "رقم تسلسل"، وعرفت من أين يؤتى بهذه الأرقام المهولة في التعمين آخر كل عام، فأذعنت للطلب، ولكن اكتشف ذلك الموظف الطيب -وكأنه أشفق عليَّ- أنَّ لدي مشكلة أخرى، ألا وهي أن الصور الشخصية المطلوبة لا تتوافق مع التنظيم الإداري، فعذرته وغادرت المكان على أمل العودة في الغد.

اليوم الثاني حضرت، وكلي أمل أن أنجز مهمتي، وأن أعود إلى بيتي وفي جيبي البطاقة الخضراء.. ولن أطيل الشرح كيف نلت شرف الحصول على رقم تسلسل القوى العاملة؟! ولكن الذي علمته بعد ذلك كله، أنه عليَّ العودة إلى مكتب سند مرة أخرى، وذلك بعد أن استوفيت كل المتطلبات التي أضيف إليها كشف بعدد العمال، وهذا الكشف يحتاج إلى زيارة القوى العاملة.

اليوم الثالث ذهبت للقوى العاملة، واستخرجت الكشف المطلوب، وبما أنني قد عرفت موقع مكتب سند خلال اليومين الماضيين، لم أخطئ الطريق هذه المرة، ولكن أخطأت في معرفة الاختصاص، لأتفاجأ بأن ليس كل سندٍ سنداً، بل عليَّ أن أذهب إلى سند آخر متخصص في إدخال معلومات الورقة إلى الحاسب الآلي.

إذن.. إذا كان استخراج بطاقة رواد الأعمال فيها كل هذه الإجراءات؟! فماذا تظنون بالأعمال التقليدية وليست الريادية؟! وبعد كل هذا الذي تم -والتي اعتقد أنها كان من الممكن إنجازها في قاعة واحدة، بفضل الربط الإلكتروني- تجد أن عليك الانتظار أسبوعين حتى تحصل على بطاقة رواد الأعمال، ولكن بطاقة الأحوال المدنية على أهميتها، تصدر في 15 دقيقة، وبطاقة الصراف الآلي تصدر من فرع البنك في دقائق معدودات، والأدهى منذ ذلك أنني ذهبت بهذه البطاقة إلى صندوق الرفد، وقد كانت شرطا أساسيا لأحصل على تسهيلات، فسهلت عليَّ الخروج من نفس الباب الذي دخلت منه.

وختام القول.. أقترح للذي صنع هذه الإجراءات المطولة كلها، أن يُمنح وسام الابتكار، وجودة "البيروقراطية" اللا متناهية؛ لأنه فعلاً أجاد هدر الوقت في الطرق والمراجعات.

--------------------

ملحوظة: للنقد الجاد وليس مجرد التنظير الخيالي.. أعرف أحدهم عندما ولي إدارة جهة خدماتية على درجة كبيرة من الأهمية والحساسية، نظر إلى أسلوب العمل فيها، فوجد أن فيه الكثير من الإشكاليات والعقد الموروثة، التي كانت تكبِّل الإنتاج وسرعة الإنجاز، فعمل على حلِّ تلك العقد، وتبسيط الإجراءات، وحدَّد الأدوار لكل شخص، ثم رسم خارطة ملونة بالحاسب الآلي لخط سير العمل، ونظَّم وحدة الأداء وجعلها في خط دائري في متناول اليد للموظف صاحب الدور التالي، فأحدث بذلك نقلة نوعية في الإنتاج من ثلاثمائة وحدة إلى أكثر من سبعمائة وحدة في اليوم الواحد، وكان العمل لا يزال ينجز يدوياً، وأصبح الموعد للناس 24 ساعة فقط، بدلاً من الأيام والأسابيع.

safeway-78@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك