المعجزة الإسبانيَّة.. هل تكتمل؟

محمد أنور خميس اللواتي

لن أتحدَّث هنا عن مُعجزات كروية تقدمها النوادي الإسبانية، ولا عن لوحات فنية نحتها فنانون إسبان، بل عن معجزة اقتصادية سطرتها الإرادة الإسبانية. بعدما عصفت أزمة الرهن العقاري بالسوق الإمريكي، ووقعت الأسواق العالمية في ظلال تبعاتها. لقد تأثرت إسبانيا واليونان وإيرلندا والبرتغال (والتي عرفت بدول الـPIGS) بشكل كبير، حتى توقع الكثير من المحللين انهيار هذه الدول وإعلان إفلاسها. كل واحدة من هذه الدول الأربع مرت بتجارب مختلفة، ولكني سأسرد هنا بشكل موجز التجربة الإسبانية في التعامل مع الأزمة الاقتصادية التي ألقت بظلالها على كل مفاصل الحياة في إسبانيا. اليوم أصبحت إسبانيا واحدة من اكثر الدول في منطقة اليورو نموًا، حيث سجل الاقتصاد الإسباني نموًا جاوز 3% العام الماضي، رغم وجود الكثير من التحديات الداخلية والخارجية التي قد تعصف بالاقتصاد الإسباني.

إسبانيا ذات الـ47 مليون نسمة، تمتلك خامس اكبر أقتصاد في منطقة اليورو؛ مما يعكس مدى أهميتها. إلا أنَّ الأزمة المالية العالمية عام 2007 أدت لشبه انهيار في الاقتصاد الإسباني؛ حيث انخفضتْ أسعار العقار بشكل كبير مما أثَّر على القطاع البنكي، ومن ثم القطاعات الاقتصادية الأخرى. ونتج عن ذلك ركود اقتصادي كبير، وأزمة اقتصادية خانقة، صاحبها إرتفاع نسبة البطالة، وإرتفاع العجز في التجارة الخارجية، وإرتفاع كبير في المديونية.

ومع تولِّي الرئيس الإسباني ماريانو راخوي سدة الرئاسة، قام بإصلاحات جذرية تساعد الشركات الإسبانية على البقاء على تنافسيتها العالية. حيث يعود له الفضل في فرض إصلاحات جوهرية طالت معظم مفاصل الحياة في إسبانيا، وساعدته في ذلك وجود عوامل خارجية ابرزها انخفاض قيمة اليورو، وانخفاض سعر النفط، وبرنامج التيسير الكمي الذي اتبعه البنك المركزي الأوروبي، وعوامل اخرى داخلية مثل حجم الاقتصاد الإسباني، إضافة إلى وجود نظام تعليمي متقدم.

عمل راخوي على تشريع إصلاحات في قطاع العمال في العام 2012م تهدف للحد من انهيار الشركات، وتعمل على تحفيز الشركات على زيادة التوظيف عبر آليات منها تنظيمات في "اتفاقية المفاوضة الجماعية" مع النقابات العمالية بديلًا عن التسريح. وفي المقابل، خفَّض كلفة وسهولة تسريح العمال لزيادة الإنتاجية والمرونة. هذه الإصلاحات سهلت عمليات الوصول إلى اتفاقيات بين النقابات العمالية والشركات مع مراعاة وضع كل شركة. كما عمل على مراجعة السياسات المالية للدولة عبر خفض الضرائب على الشركات من 30% إلى 25% لتعزيز تنافسية الشركات الإسبانية، وتشريع إصلاحات كبيرة في القطاع العام؛ أبرزها: اتباع سياسة التقشف الصارمة، ورفع الكفاءة في استخدام الموراد المتاحة، ورفع معدل الضريبة المضافة لتعزيز الإيرادات.

الإصلاحات الإسبانية أقنعت الاتحاد الأوروبي بوجود حركة تصحيحية داخلية في إسبانيا؛ وبالتالي سهلت قرار الإتحاد الأوروبي بالموافقة على خطة إنقاذ النظام المصرفي الإسباني ب 62 مليار يورو.

لعبت الإصلاحات الاقتصادية -إضافة إلى العوامل الخارجية- دورًا كبيرًا في انتعاش الاقتصاد الإسباني مرة أخرى، وتعزيز ثقة المستثمرين، وزيادة تنافسية الشركات الإسبانية وبالتالي ارتفاع صادراتها، وارتفاع حركة السياحة. فقد بدأ الاقتصاد الإسباني بالنمو مجددًا وبنسب تفوق دول غرب أوروبا، وخلق المزيد من فرص العمل مما انعكس ايجابًا على نسبة البطالة، وخفض في نسب الدين العام. على اثر ذلك، رفعت وكالة ستاندرد آند بورز تصنيفها الائتماني لإسبانيا إلى مستوى BBB+.

إنَّ استدامة هذا الحركة الاقتصادية التصحيحية هو رهن لمدى شمولية هذا النمو على طبقات المجتمع المختلفة؛ لذا أفرزت الانتخابات الأخيرة في ديسمبر الماضي دخول أحزاب جديدة لمنصة البرلمان بعد سيطرته طوال أربعة عقود من قبل اليمين المحافظ الشعبي واليسار الإشتراكي العمالي. ورغم مرور ثلاثة أشهر من الإنتخابات البرلمانية، لم تنجح الأحزاب السياسية في تشكيل حكومة حتى اليوم! ويعكس ذلك عدم ارتياح فئات المجتمع من استفادتها من المعجزة الاقتصادية التي حققها ساستهم خصوصًا إن نسب البطالة لا تزال مرتفعة، رغم انخفاضها عما كانت عليه خلال السنوات الماضية. إن التحدي القادم في إسبانيا يكمن في اشراك جميع الفئات في نتائج النمو المحقق، وتشكيل حكومة قادرة على استمرار معدلات النمو الحالية. كما ستلعب العوامل الخارجية دورًا كبيرًا في زيادة التحديات التي ستواجهها إسبانيا خصوصًا الإرتفاع التدريجي في أسعار النفط، ومدى صلابة الإتحاد الأوروبي خصوصًا مع قرب الإستفتاء في تحديد مصير بريطانيا من عضويتها في الإتحاد. إن عدم التغلب على التحديات الداخلية والخارجية القادمة قد يعكر على الإسبان نشوة الاحتفال بالنتائج الباهرة التي حققها ساستهم خلال الأعوام القليلة الماضية.

ورغم أنَّ المعجزة الإسبانية هي وليد بيئتها، فلا يُمكن قص ولزق التجربة الإسبانية من دون النظر إلى المعطيات الخاصة لكل بلد، إلا أنه يُمكننا أن نستفيد من التجربة الإسبانية، خصوصًا ونحن لم نحسن استغلال ثروتنا النفطية لأعوام كثيرة مضت. إن العبر تكمن في أهمية التضحية من الجميع، وانخاذ خطوات تصحيحية سريعة، واشراك الجميع في عملية صنع القرار عبر الشفافية والحوار، وعبر اتباع سياسة واضحة مرسومة يمكن قياس مدى نجاحها، ومراجعة نتائجها بشكل دوري.

mohdlawati@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك